في ظل هذه الهجمات الشرسة التي يتعرض لها المسجد الأقصى بين الحين والآخر، كان من الواجب على المسلمين جميعاً أن يتعرفوا على مكانته ومنزلته؛ ليقدروه ويعظموه، كما عظمه الأنبياء والصالحون من قبل.
فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام لما نزلت به الوفاة سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر, وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر".
فهذا كليم الله موسى عليه السلام يسأل ربه عند الموت أن يدنيه من الأرض المقدسة لشرفها وبركتها، وهاجر إليه الخليل إبراهيم ولوط عليهما السلام، وذلك كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هجرة بعد هجرة ، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم ، تقذرهم نفس الله ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير"، ومهاجر إبراهيم عليه السلام تعدل مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما نجى الله إبراهيم ولوطاً وجههما إلى فلسطين من أرض الشام ليقيما عليها ويستقرا بها، وفيها توفي الخليل عليه السلام، ودفن في مدينة الخليل من أرض فلسطين، فلله درها من أرض وطئتها أقدام الخليل إبراهيم عليه السلام، وفيها مثواه وقبره.(واقدساه: 1 /١١٢).
وبالقدس عاش من اصطفاهم الله..عاش آل عمران الأبرار، عاشت أم مريم الخاشعة التي تنذر ما في بطنها لربها وتعيذها وذريتها من الشيطان وتأتي ابنتها البتول مريم عليها السلام كاملة في عبادتها وذكرها وتوكلها على الله عز وجل قال تعالى:(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)(آل عمران:37)، وهنا عاش زكريا عليه السلام وملأ الدنيا عبادة وتضرعاً ودعاء ومسارعة في الخيرات. (واقدساه، ١ / ١١٩).
وأرض بيت المقدس هي أرض المنادي من الملائكة نداء الصيحة لاجتماع الخلائق يوم القيامة كما قال سبحانه: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) (سورة ق:41).
قال قتادة وغيره: كنا نحدَّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة, وهي أوسط الأرض، وقال الإمام الطبري رحمه الله: واستمع يا محمد صيحة يوم القيامة يوم ينادي بها منادينا من موضع قريب وذكر أنه ينادي بها من صخرة بيت المقدس. (تفسير الطبري، ١١/ ١١٤).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ودلّت الدلائل المذكورة على أن (ملك النبوة) بالشام والحشر إليها, فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام, كما أن مكة أفضل من بيت المقدس, فأول الأمة خيرٌ من آخرها، كما أن في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام, كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".(مجموع الفتاوى، ٢٧/ ٤٤).
وللمسجد الأقصى المبارك أهميةً خاصةً ومكانةً عظيمةً، في نفوس المسلمين، فهو ثاني مسجد بني في الأرض، وذلك لما أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال:" المسجد الحرام" قال قلت: ثم أي ؟ قال: " ثم المسجد الأقصى " قلت : كم بينهما ؟ قال: " أربعون عاماً ، ثم الأرض لك مصلى ، فصل حيث ما أدركتك الصلاة "
والصلاة فيه وإتيانه بقصد العبادة تكفر الخطايا والذنوب، وقد بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه, وملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده, و ألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاة فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما, وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)، ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز, فيدخل فيصلي فيه, ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها, لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام. (مجموع الفتاوى، ٢٧/ ٢٥٨).
وقد صلى المسلمون إليه في بداية الأمر نحو سبعة عشر شهراً قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة بمكة المكرمة ويتخذوها قبلتهم قال تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 144]، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة".
وارتبطت مكانة المسجد الأقصى في نفوس المسلمين رباطاً وثيقاً بحادثة الإسراء والمعراج، تلك المعجزة التي اختص بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أُسري به ليلاً من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بفلسطين قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وفيه صلى بالأنبياء مما يدل على كثرة بركاته حتى إنها لتفيض على ما حوله، ولا تقتصر عليه فقط، كما أشارت الآية: "باركنا حوله" وليس فيه، والمتأمل في هذه الآية يجد أن المولى سبحانه وتعالى قد وصف بيت المقدس ومسجده بالبركة وهي النماء والزيادة في الخيرات والمنح والهبات.
والأقصى هو مبدأ معراج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وذلك لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربـطـته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم عـرج بي إلى السماء". فقد كان الله تعالى قادراً على أن يبدأ رحلة المعراج برسوله من المسجد الحرام بمكة، ولكنه سبحانه اختار الأقصى لذلك ليثبت مكانته في قلوب المسلمين، كبوابة الأرض إلى السماء، والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعاً. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.(في ظلال القرآن، ١٢/ ١٥).
ووصف القرآن الكريم أرض بيت المقدس بالرَّبوة ذات الخصوبة وهي أحسن ما يكون فيه النبات, وماءها بالمعين الجاري قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)(سورة المؤمنون:50). قال الضحاك وقتادة: وهو بيت المقدس، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الزموا هذه الربوة من فلسطين؛ فإنها الربوة التي قال الله تعالى:(وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).(تفسير الطبري، ٩/ ٢٧).
وقد ربطت الرسالة المُحَمَّدية بين مكانة كلٍّ منَ المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة والمسجد الأقصى بالقُدس المشرفة، وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) فالشارع ينهي عن السفر إلى أي مكان مسجداً كان أو غيره لقصد العبادة ما عدا المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب الحصر.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل ويصلي في مسجده إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده : فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة لله عز وجل.(تفسير القرطبي ١٠ / ٢١١).
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ثواب الصلاة فيه، وما فيها من الأجر العظيم والثواب الجزيل فيما أخرجه البزار في مسنده بسند حسن عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة, والصلاة بمسجدي بألف صلاة, والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)، ومدح مصلى المسجد الأقصى، وأن ثواب الصلاة فيه مضاعف، وذلك فيما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعا، قال: أو قال: خيرٌ له من الدنيا وما فيها).
وبيّن صلوات الله عليه وسلامه ثبات أهل بيت المقدس عند حلول الفتن، وذلك فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي, فظننت أنه مذهوب به, فأتبعته بصري, فعمد به إلى الشام, ألا وإن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام)، والمعنى أن الفتن إذا وقعت في الدين كان أهل الشام برآء من ذلك ثابتين على الإيمان، وإن وقعت في غير الدين كان أهل الشام عاملين بموجب الإيمان ومقتضاه
وأرض بيت المقدس هي حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان، وقد بيّن لنا ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: (يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك).
وأخبرنا أن المقاتلون في سبيل الله على أرض بيت المقدس هم الطائفة المنصورة، ذلك فيما أخرجه ابن ماجة في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" لا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ ، وَمَا حَوْلَهُ ، وَعَلَى أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ ، لا يَضُرُّهُمْ خِذْلانُ مَنْ خَذَلَهُمْ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ".
ومن لم يستطع زيارته فليرسل زيتاً يضاء به وليدعم صموده وبقاءه شامخاً ضد مخططات اليهود، وذلك لما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، عَنْ مَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: " أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ " ، قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ، قَالَ: " فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ "، وهذه الأحاديث وغيرها تُؤَكِّد مكانة المسجد الأقصى في الإسلام، وتؤصل مسؤولية المسلمين عنه حماية ورعاية وصيانة، وأنه لا يجوز لهم شرعًا التفريط فيه، أو التَّهاون في حمايته واسترجاعه ممن سلبه منهم، وأنه يجب على جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نصرته بكل ما يستطيعون من وسائل على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول والحكومات بالنفس والمال.
كتبه
د/أحمد عرفة
عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن
بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالديدامون شرقية