بعض الدارسين والباحثين و المؤلفين، حينما يتصدر لعمل من الأعمال فيؤلف كتابا أو يعد بحثا أو يحقق مخطوطة، ينتابه شعور بأن هذا الميدان الذي كتب فيه، ملك له وحده، وأن أي باحث إذا حاول الكتابة فيه، فمعنى ذلك أنه يعتدي عليه ويبدد جهوده، أو يسطو على سابقته، وكأنه يقول للناس: إن عمل الأول غير واف وغير جدير، وعملي اللاحق، أكمل وأحسن وأوفى منه.
والحق أن هذا النوع من الاحتكار الثقافي، لا حق للمؤلف الأول فيه، بل هو منحى يضر بالفكر والبحث والمعرفة، أما إذا حاول المؤلف الأول أن يدافع عن عمله، ويتهم ما جاء بعده،بأنه دون مستواه، فهذا أمر لا حق له فيه، وليس من شأنه، وإنما هو حق القراء وحدهم هم فقط من يحكمون عليه بالإجادة أو الضعف.
والحق أن السبب في هذا قد يظهر نتيجة المعايشة والأنس الذي يطال عاطفة الباحث في موضوعه الذي يكتب فيه، فيشعر بعد أن تتلبسه حالة البحث، أن هذا الموضوع ملك له وحده، وليس لأي أحد أن يملك الحق في الكتابة فيه وعنه.!
وهو لا شك وهم يقود إلى الأنانية، فعلى الباحث أن يترك العنان للجميع أن يلجوا ميدانه ويعرض كل منهم بضاعته، والقبول فقط لن يكون إلا من نصيب القيم منها.
أما هذه الغيرة التي تثير عداوة وتحدث شقاقا، فلا داعي لها.
وربما يكون العمل الثاني والمتكرر لم يضف إلا شيئا يسيرا، أو أنه كتب بلغة مغايرة، وأسلوب مختلف، فليكن إذن لأن هذا اليسير ربما يكون إضافة جديدة تفيد البحث، وربما يكون الأسلوب كذلك مما يناسب أذواقا أخرى لم يرق لها أسلوب الكتاب الأول.
منذ فترة كتبت مقالا حول الدكتورة بنت الشاطئ التي لا حظت عليها انتقاد أي محاولة جديدة لتفسير القرآن الكريم تظهر على الساحة، كانتقادها لعمل سيد قطب ومصطفى محمود، إذ يبدو أن تفسيرها البياني للقرآن الكريم جعلها تعتقد بأن تفسير القرآن ملك لها وحدها، أو أنها تصورت أن المحاولات الأخرى تنادي بهدم جهودها في هذا الميدان.
منذ قرون مضت قام شقاق بين البدر العيني والإمام ابن حجر، في شرح صحيح البخاري، فقد بدأ ابن حجر عمله في الشرح، ثم جاء البدر مقلدا له وناقدا لأحكامه، مما فسره ابن حجر أنه سرقة وتقليد فاحش، ولا شك أن في شرح البدر جديد في التناول والأسلوب قد أفاد حتى ابن حجر نفسه حينما أجبره أن يعدل كثيرا مما كتب في الفتح بناء على نقد العيني له.. أي أن الكتابة في نفس الموضوع أفادت الموضوع والباحث نفسه، حتى وإن كانت قد أغضبت الكاتب الأول، فقد قيل: "إن ابن حجر انبرى فألف في دفع اعتراضات البدر على كتابه فتح الباري، فألحق تعديلات بكتابه بعد ظهور عمدة القاري".
منذ فترة جرى حديث بيني وبين أحد الأكاديميين حول تحقيق الدكتور النبوي شعلان لكتاب العمدة لابن رشيق، وسألني قائلا: لماذا حققه وهناك تحقيق للشيخ محيي الدين عبد الحميد، فقلت له: راجع مقدمة الدكتور النبوي في صدر تحقيقه لتعرف الفرق، فالدكتور النبوي لم يحقق الكتاب استدراكا على تحقيق سبق، وإنما يمكن القول بأن التحقيق الحقيقي للكتاب هو تحقيق الدكتور النبوي، وما فعله محيي الدين كان محاولة نقل الكتاب من الورق الأصفر للورق الأبيض مع إضافة بعض التعليقات والتوضيحات، ومع هذا كشف الدكتور النبوي عن كوارث علمية في تحقيق محيي الدين، وصفها أحيانا بالفضائح العلمية، وأبان فيها عذره للشيخ، لأنه كان يوزع الكتاب على طلاب الدراسات العليا، ليصعوا ملاحظاتهم ثم يدفع بالكتاب إلى المطبعة.
ومما يذكر من مثل هذه المعارك واعتقاد المؤلف في نفسه أنه المتفرد بعمل ما من أعمال المعرفة، ثم وقوعه في حبائل الغيرة والاختصام، تلك المعركة التي دارت بين الشيخ عبد المتعال الصعيدي والدكتور محمد عبد المنعم الخفاجي، فقد قام الاول بشرح الايضاح في البلاغة للقزويني، وظل متناولا في ايدي الطلاب عدة سنوات، حتى جاء خفاجي ودبج شرحا آخر عرف طريقه أيضا إلى أيدي الطلاب، فقام الصعيدي بمهاجمته وانتقاده بل تعدى الأمر بينهما إلى التجريح الشخصي، وأصدر الشارح الأول كتابا اسمه (تنوير الطلاب) نقد فيه مسلك الشارح الثاني وقال: إنه عنى بنقل عبارات الحواشي ومماحكاتها اللفظية بأسلوبها الذي لا يليق بعصرنا، فهب الشارح الثاني يدفع الغارة بمثلها، فأصدر نشرات تحمل عناوين مثل « بيني وبين الناقد العالمي البروفسير الأستاذ الصعيدي » و « بيني و بين زعيم المجددين في البلاغة» وقد ذهب في هذه النشرات الى أن الأستاذ الصعيدى خشى من منافسة شرحه الذي كان الميدان خاليا له من قبل .. ومما قاله : « والطريف حقا أن ناقدنا الكبير يرى أن الايضاح ملك له وأنه كان حجرا محجورا على سواء أن يتناوله بالشرح والتعليق، لأن عمل الناقد فيه معجزة الأجيال، ولأنه قد فرضه على الطلاب المساكين فرضا، وحمله اليهم في حقيبته صباح مساء"
و تبودلت النشرات والحملات بين الأستاذين الجليلين كما قيل بعضها في التجريح الشخصي، وبعضها في مسائل العلم ، من نحو إسناد بيت من الشواهد الى غير قائله أو تحريف فيه أو توجيه لقول « المصنف . ومما اختلفا عليه : هل مقدمة - الايضاح، مقدمة كتاب أو مقدمة علم"
بقي أن أشير إلى أنني حينما ألفت كتابي الأخير عن الدكتور البيومي، علمت أن هناك محاولات أخرى للكتابة عنه من بعض الباحثبن، وأنا أرى أن من الخير والنفع أن أكتب أنا وغيري عن الراحل الكريم، حتى تكثر تلك الوجهات التي تعبر عن كل ملامحه، فهو إذن ليس حكرا علي وحدي، بل رحبت كثيرا حينما حدثني باحث مرموق أنه سوف يعد عن الدكتور البيومي كتابا وعن نفس الموضوع الذي كتبت فيه عنه، وهو ردوده على الشيوعيين والعلمانيين، فلم أجد مناصا إلا أن أرحب بذلك، لأن هذه الأعمال تخدم الحقيقة وتلبي رغبة الأذواق المختلفة، ولا شك أنها لا تعدم الجديد الذي يغاير ما كتبت، بل أعدها صوتا آخر ينضم لصوتي فيزداد قوة ليهتف الجميع بجهود الراحل الكريم، بل إنني أنتظر كتابا ثالثا ورابعا وخامسا، تسير كلها في اتجاه واحد خدمة للعلم والدين، ولا أغار من هذا ولا أضيق به.. ولله الحمد والمنة.