ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

يدعي بعض المغرضين أن معجزة الإسراء والمعراج مستوحاة من التراث الفارسي الوارد في كتاب الأساطير الفارسية باللغة الفهلوية، وكذلك من الأدب الأوربي وبخاصة ملحمة دانتي، ويتساءلون: ما الجديد الذي جاء به رسول المسلمين، وما وجه الإعجاز فيه؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) إذا سلمنا بأن الإسراء والمعراج قصة مستوحاة من التراث الفارسي والأوربي، فكيف للنبي الأمي أن يقتبس من تراث لا يعرف لغته؟ ولم لم يرد أهل هذا التراث على الاقتباس من تراثهم؟ أما من قالوا إنها مقتبسة من الأدب الأوربي متمثلا في ملحمة دانتي، فإن التاريخ يرد هذا الزعم؛ لأن دانتي متأخر زمنيا، فكيف يقتبس المتقدم من المتأخر؟!

2) أخذا بمقولة: الحق ما شهدت به الأعداء، نسجل أن أحد بطاركة الروم بمسجد إيلياء يشهد بأنه علم تلك الليلة التي أسرى الله فيها بنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس، وهو دليل قوي على صحة إسرائه - صلى الله عليه وسلم - ومعراجه.

3) معجزة الإسراء والمعراج ثبتت بالقرآن والسنة الصحيحة، ثم إنها لا تعظم بحال من الأحوال على قدرة الله - عز وجل - المطلقة.

التفصيل:

أولا. كيف يتأتى للأمي أن يقتبس من تراث أجنبي؟

نقول للذين يزعمون أن حادث الإسراء والمعراج، استوحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من مصادر فارسية أوربية: حنانيكم؛ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولم يعرف اللغة الفارسية، ولم يطلع على آدابها، وحتى لو سلمنا جدلا أن قصة الإسراء والمعراج لها نظير في الفارسية، فعند الرجوع إلى الملحمة الفارسية نجد أنها مختلفة تماما عن "الإسراء والمعراج" النبوي؛ وذلك أنه يوجد في الملحمة أن من الأنبياء والملائكة من أرسلهم الله إلى الجحيم عقابا لما ارتكبت أيديهم من إثم، فهل هذا يعقل؟! وهل مجرد التشابه بينهما هو مؤشر وحدة الزمان والمكان ووحدة الموضوع التي تتوافر في الملاحم؟

وعندما نعود إلى حادثة الإسراء والمعراج نجد أن أحداثها موثقة تاريخيا، ونجد أحداثا واقعية، كالمشاهد التي رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحدثت بالفعل، مثل وصفه للقافلة العائدة إلى قريش، والبعير الذي ضل منها، ثم وصفه للمسجد الأقصى وصفا دقيقا لأهل مكة، وهم على دراية تامة به... إلخ.

فبالبحث وجدنا اختلافا كبيرا بين الملحمة الفارسية، وحادثة الإسراء والمعراج، وأيضا عند مناقشة ما جاء في الكتاب المقدس من صعود "أخنوخ وإيلياء" والمسيح إلى السماوات، وصعود هؤلاء الثلاثة لا دليل على ذكره إلا في الكتاب المقدس .

لقد كذب مثيرو هذه الشبهة بصعود الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء والمعراج، مع قيام الأدلة الثابتة من القرآن، يقول سبحانه وتعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" (1)( (الإسراء)، وثمة أحاديث صحيحة تدل على صدق حدوث هذه الرحلة "الإسراء والمعراج".

ولا وجه للمقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس؛ لأن القرآن يتحدث عن الواقع، ويثبت التاريخ ما جاء في القرآن الكريم.

وإذا كانت قصة الإسراء موضع إنكار؛ لتشابهها - في زعمهم - مع بعض الوقائع الأسطورية في ثقافات سابقة لم يطلع عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأميته ولم يطلع عليها قومه كذلك - فعقيدتكم في المسيح من أولها إلى آخرها متشابهة، بل متطابقة تمام التطابق مع عقيدة الهنود.

ولقد طرح اسين بلاسيوس - وهو مستشرق أسباني - مسألة كوميديا دانتي والمؤثرات الإسلامية طرحا علميا في مطلع القرن العشرين، فأحدث هزة كبيرة في حقل الدراسات المقارنة، وركز بلاسيوس على القرائن النصية بين ملحمة دانتي وجملة الأعمال الإسلامية، وفي صدارتها قصة "الإسراء والمعراج"، بالإضافة إلى مؤلفات أدبية وصوفية، ولقد اعتقد بلاسيوس أنها أثرت في الشاعر الإيطالي، وعندها اعترض المستشرقون الطليان، وبخاصة أنصار الدراسات المتعلقة بدانتي بشكل عام؛ لأنهم يستكبرون أن يكون شاعر أوربا المسيحية مدينا بعبقريته إلى التراث الإسلامي.

ولكن هذه المناظرة التاريخية بين أنصار دانتي وخصومهم، لم تقف عند القرائن النصية، ففي عام 1449م، قام عالمان جليلان بنشر مخطوط لترجمة قصة "الإسراء والمعراج" برعاية الفونسو العاشر الملقب بالحكيم في عام 1264م، في مدرسة إشبيلية للترجمة، هذان المستشرقان هما: الإسباني خوزي مونيث سندينو، والطلياني ازيكوتشيرولي، دون أن يعرف كل منهما مشروع الآخر، واعتمد كل منهما على المخطوطات الموجودة في مكتبة أكسفورد أو مكتبة الفاتيكان، وأضاف سندينو بناء الترجمة باللغة الأسبانية الحديثة، وكان د. نذير العظمة من أوائل من نبهوا إلى هذه الترجمات التي اطلع عليها من خلال ما قدمه المستشرق سندينو، فنشرها في مجلة وزارة الثقافة السورية عام 1979م، وترجمت عن الفرنسية القديمة عناوين رؤوس موضوعات نسخة "قصة الإسراء والمعراج الأندلسية" التي تـمت ترجمتها برعاية الفونسو العاشرقبل أن يبدأ دانتي مخطوط الجزء الأول من ملحمته الشعرية عام 1305م.

وقد أشار إلى ذلك د. محمد غنيمي هلال في كتابه "الأدب المقارن"، وقام د. صلاح فضل بطرح الموضوع في كتابه "مؤثرات الثقافة الإسلامية" بشكل موسع.

نستنتج من ذلك أن هناك من المصادر الإسلامية المتعددة ما كان مترجما إلى اللاتينية والفرنسية والإسبانية، وهذه المصادر كانت موجودة في مكتبات أكسفورد والفاتيكان قبل أن يكتب دانتي الجزء الأول من ملحمته بأربعين عاما، وهذا يدل على تأثر دانتي بالمصادر الإسلامية، وعلى رأسها "قصة الإسراء والمعراج"، ونستخلص من هذه الدراسات كلها أن دانتي قد تأثر في الكوميديا الإلهية بالأوليات الإسلامية الخاصة برحلة "الإسراء والمعراج" المترجمة في مكتبات أكسفورد والفاتيكان عن طريق الأندلس والمغرب العربي، فالطبيعي إذن أن المتأخر زمنا - دانتي - هو من يقتبس من المتقدم - حدث الإسراء والمعراج - وليس العكس.

ثانيا. شهادة بطريرك الروم على صحة معجزة الإسراء والمعراج:

وإذا عدنا إلى التاريخ وجدنا ما يثبت حدوث "قصة الإسراء والمعراج" للرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دحية بن خليفة إلى قيصر الروم هرقل، وكان هرقل صاحب عقل موفور، استدعى هرقل من بالشام من التجار العرب، فجيء بأبي سفيان بن حرب، وكان وقتئذ على الكفر ومعه أصحابه، فسألهم عن تلك المسائل التي يحدث بها محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أبو سفيان يجتهد أن يحقر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصغره عند هرقل.

وقال في هذا السياق: أيها الملك، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه كذب كذبة عظيمة، قال: ما هو؟ قال: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا الحرام في ليلة، فجاء مسجدكم هذا - مسجد إيلياء - ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح! قال: وبطريرك إيلياء عند رأس القيصر، فقال بطريرك إيلياء: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمـالي ومن يحضرني كلهم، فغلبنا، فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول جبلا، فدعوت إليه النجاجرة، فنظروا إليه وقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان، ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى.

قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما، فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة، قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا.

ومن هذه القصة نستنتج أن حادثة الإسراء والمعراج قد حدثت للنبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال روايات التاريخ، بالإضافة إلى مشاهد الواقع، وإخبار القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة كما سيتضح من الوجه "ثالثاً"الآتي:

ثالثا. معجزة الإسراء بالقرآن والسنة لا تعظم على قدرة الله المطلقة:

من الأمور المعلومة من الدين الإسلامي بالضرورة كون معجزة الإسراء والمعراج ثابتة بالقرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، يقول سبحانه وتعالى: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)( (الإسراء).

والإسراء والمعراج أمران ممكنان عقلا أخبر بهما الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكرم المتواتر، وفي الأحاديث الصحيحة، فوجب التصديق بوقوعهما، ومن ادعى استحالتهما وكونهما خرافة فعلية البيان، وهيهات ذلك.

ثم ما قول المنكرين لمثل هاتين المعجزتين فيما صنعه البشر من طائرات نفاثة، وصواريخ جبارة، تقطع آلاف الأميال في زمن قليل؟ فإذا كانت قدرة البشر استطاعت ذلك، أفيستبعدون على مبدع البشر وخالق القوى والقدر أن يسخر لنبيه صلى الله عليه وسلم "براقا" يقطع هذه المسافة في زمن أقل من القليل؟!

إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أخبر أهل مكة، وأظهرهم على ما تم له في ليلة الإسراء والمعراج، أوغلوا في التكذيب، ثم طلبوا منه طلبا معجزا، ألا وهو أن يصف لهم المسجد الأقصى، إذا كان صادقا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رآه من قبل، فجاء جبريل - عليه السلام - له بالمسجد فوصفه ونعته نعتا دقيقا ثم سألوه عن حال عيرهم، فجاء بحديث لا مجال للحدس فيه والتخمين، وأخبرهم أنها راجعة من الشام مع شروق الغداة، فكان ما قال حقيقة ناصعة واقعة، فكان هذا برهانا قاطعا على صدقه فيما حدث به في هذا النبأ العظيم.

الخلاصة:

كيف يتأتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة أن يطلع على التراث الفارسي، ويستوحي منه "قصة الإسراء والمعراج"؟! ثم هل يمكن أن يستوحي ما جاء فيها من رجل - دانتي - أتى بعده بقرون عدة؟!

شهادة أحد بطاركة الروم بعلمه بليلة الإسراء والمعراج أحد الأدلة التي تثبت صدق هذه المعجزة، فضلا عن ثبوتها بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ولا تعظم على قدرة الله - عز وجل - المطلقة، ولقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - براهين قاطعة على صدقه فيما حدث به عن الإسراء والمعراج.

نسأل الله أن يهدينا جميعا إلي سواء السبيل

تم نسخ الرابط