ads
الجمعة 22 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

قد يكون من المدهش أن نعلم أن نجيب محفوظ كتب ثرثرة فوق النيل قبل وقوع نكسة يونيو ١٩٦٧.
شخصيًا كنت أتصور أن هذا العمل الفني قد كُتب عام ١٩٧١ وهو العام الذى شهدت فيه دُور العرض هذه الرواية كفيلم سينمائي لكن الحقيقة أن نجيب محفوظ قد أكمل كتابة تلك الرواية عام ١٩٦٦ أى قبل النكسة بعام تقريبًا وقد نُشرت على حلقات في جريدة الأهرام حيث كان الأستاذ محمد حسنين هيكل يصر على أن يقدم رؤية مختلفة على صفحاتها وهي الرؤية التي كثيرًا ما أزعجت مقربين من جمال عبد الناصر .
وهذا التاريخ الذى اكتملت عنده  الرواية لا بد أنه يطرح تساؤلًا غاية في الأهمية وهو: ألم ينتبه أحد لما كتبه نجيب محفوظ؟! 
ألم تكن رمزيته تدق ناقوس الخطر لما يمكن أن يضرب مصر بعد ذلك فقط بعدة أشهر .
وألم يكن اختيار جريدة الأهرام وهى الجريدة التي يرأس تحريرها الرجل الأقرب إلى عبد الناصر وصاحب أهم مقال فى تاريخ الصحافة العربية وهو الأستاذ محمد حسنين هيكل . ألم يكن لذلك دلالته حول أهمية ما طرحه نجيب محفوظ والذى حمل نبوءة سرعان ما تحققت كواقع مرير  تسبب فى انتهاء شرعية عبد الناصر كما قال هيكل نفسه .

على أية حال مرت الأيام عصيبة وضرب مصر والعالم العربي زلزال آخر بعد نكسة ٦٧ هو رحيل جمال عبد الناصر المفاجئ في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ .
وبعد هذا التاريخ يمكن أن نقول أن رواية نجيب محفوظ اتخذت منحى آخر حتى أنها تعدت بكثير حدود الثرثرة لتنطلق صرخات مدوية وكأنها صيحات مكبوتة أراد صاحبها أن يطلق سراحها مرة واحدة فحدث ضجيج لم نكن لنسمعه إلا بعد أن تحررت السينما من قيود التوحيد والتبجيل إلى ساحة العصيان والغضب والسخرية والتهكم والضرب تحت الحزام وهو ما حمله سيناريو الفيلم الذى كتبه ممدوح الليثي واشترك معه فى كتابته نجيب محفوظ نفسه وهو مؤلف الرواية .

فى ٨ أبريل عام ١٩٧١ فوجئ جمهور السينما بأن رواية نجيب محفوظ قد خرجت إلى واقع يجسده عمل سينمائي أُنتج بحرفية بالغة قام فيه عماد حمدى بدور هو الأعقد فى تاريخ حياته الفنية بالإضافة إلى عدد كبيرة من الفنانين كلهم جمعتهم عوامة نيلية كانت الرمزية في اختيارها حاضرة طوال مدة الفيلم ، فقد كانت هذه العوامة ترمز إلى مصر نفسها بما يحمل هذا الرمز من ألم ويأس وضياع .

وهنا اختلف الأمر ولم تعد الأوراق هي فقط التى تنطق بالفكرة بل كانت الصورة والموسيقى والحوار وحتى كلمات الأغنية الركيكة "الطشت قالي" والمشاهد الجنسية التي حملها السيناريو و التي جاءت معظمها في الحقيقة مستترة عدا بعض المشاهد التي جاءت صريحة في دلالتها وحالة الغياب عن الوعى التي خيمت على كل أجواء الفيلم من أثر تعاطي مخدر الحشيش والرياء الديني الذى صاحب حارس العوامة
"عم عبده" 
كل هذه العوامل كانت تنطق بالفكرة التي أضحت مجسمة مرئية تضرب المشاهد الذى يكاد لا يصدق أن ما يراه هو الحقيقة .

انتقاد لسياسات الدولة ..السخرية من الاشتراكية وشعاراتها ورجالها .. كشف صور الفساد الذى ينخر في مؤسسات الدولة والتهكم حتى على تاريخها وحضارتها .
كان اليأس يضرب سكان العوامة ولم يكن لهم سبيل إلا بالغياب عن الواقع الذى يلفظونه ولم يعد لديهم أى رجاء فيه .

كان هذا غريبًا أن السينما التى قدمت منذ ثورة يوليو ١٩٥٢ هذا الكم الهائل من الأفلام التى تمجد الثورة وعدتها جنة جديدة جاءت على أنقاض جحيم الملكية هي التي تضرب الثورة وتلعنها وتحملها سبب غيبوبة سكان العوامة .
والحقيقة أنه لا عجب في ذلك إذا تأملنا نهج السينما المصرية خلال التغيرات التي مرت بها مصر في القرن الماضى فسنجد مثلًا أن عشرة أفلام سينمائية فقط كانت كفيلة بأن تصور لك أن النظام الملكي هو جنة الله على الأرض وأن الملك فاروق في مصاف الأولياء وأن عشرة أفلام بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ كانت كفيلة أيضاً بأن تصور لك نفس العصر بأنه الجحيم على الأرض وأن المالك فاروق هو شيطان يمشي فوق الأرض وعشرة أفلام بعد موت عبد الناصر كانت كفيلة بأن تصور لك أن النظام الناصري أسوأ النظم على وجه الأرض وعشرة أفلام بعد موت السادات كانت كفيلة بأن تصور لك أن النظام الانفتاحي أكثر صور الفساد على الأرض إلى الحد الذى وُصفت معه هذه السينما بأنها "سينما نبش القبور" والوصف للأستاذ على أبو شادى فى كتابة "الفن والسياسة"

 اللافت في كل هذا أن الفنان الذى صنع كل هذا التناقض كان هو نفسه الفنان لكنه قام بأدوار عديدة والأمثلة على ذلك كثيرة فشكرى سرحان الذى جسد دور ضباط الثورة وربما كان يرمز لجمال عبد الناصر في رد قلبى عام ١٩٥٧ هو الذى جسد دور المضطهد والمعذب من أجل الفكرة فى "وراء الشمس" الذى يهاجم نظام عبد الناصر عام ١٩٧٨ .

وربما كان هذا مفهومًا ومستوعبًا لكن عواقبه لم تكن سوى أن تبخرت كل هذه الدعايات وظل الواقع أصدق منها . ومن أجل ذلك كان يجب أن تأخذ كل ثرثرة طريقها نحو النور وكان يجب أن يستمع كل نظام حكم لثرثرة الكاتب وطالما كانت مفعمة بوطنية ولم يكن من ورائها قصد سوى أن تنير الطريق أمامه .
على صفحات الأهرام بدأ نجيب محفوظ يثرثر وعلى ذات الصفحات كان هيكل يكتب بصراحة وكان عبد الناصر فى الحقيقة قارئ جيد لحركة التاريخ لكن ربما من كان بجواره وقد كانوا كُثر قد حجب عنه الرؤية أو زيفها ورغم ذلك فإن التاريخ قاسٍ في حكمه على الزعماء. إنه يحملهم وحدهم أوزار الأمة لأن مأساة الفرد العادي وكما قِيل بحق لا تلحق إلا بالفرد . أما مأساة العظيم فإنها تلحق بالأمة وتغير وجه التاريخ .. !

تم نسخ الرابط