"ليسَ هُنالك مِنْ حزنٍ اقسى من الحُزنِ الذي لا يمكننا البَوح به" هنري وادسورث
منذ الوهلة الأولى التي شاهدت فيها على نشرة الأخبار أثار قصف ودمار راح ضحيته أطفال أبرياء وقد كنت في سنهم تساءلت في عفوية: أين الله من كل هذا؟
ولقد دعوت الله في هذه السن المبكرة وكنت قد انتهيت لتوى من صلاة الجمعة وسمعت الشيخ يقول أن الله أعدَّ للصالحين قصورًا في الجنة أن يبدل قصري إن رءاني صالحًا إلى كوخٍ صفيرٍ يستظل به طفل بائسٍ في الدنيا .
يالبراءة الصغار التي تحبها ياربي وقد أفسحت لهم ملكوتك .
بعدها أخبأت هذا التساؤل في صدرى لأنه لم يكن يكن بمقدور أحد أن يعطيني إجابة تقنع طفل ربما ظهرت عليه مبكرًا علامات تمرد غير مريحة .
كبر التساؤل معي وأصبح محل نقاشات بيني وبين أصدقاء الجامعة ورغم أنه لم ينل من يقيني بوجود الله لحظة شك واحدة إلا أن التساؤل ظل بصيغته الفطرية الأولى يتجدد عند كل مأساة تضرب الضعفاء في هذا العالم الوحشي المخيف وكأن المأساة لا ترى غيرهم .
بالتأكيد كنت أتلقى إجابات ربما يحمل بعضها كل مفردات المنطق لكن بقى شئ في صدرى حائرًا غير قانع ولأنني أعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فقلت إذن أتحدث وأسأل الله في العلن وطالما أنه يعلم السر .
كانت الاجابة التقليدية التي لم أستمع لغيرها أن لهم الجنة .
لقد سمعت لفظ الجنة هذا بمعان عدة .
فهى الجنة والنعيم والخلود والملكوت والحياة الأبدية وغيرها .
ولقد سمعت دعاء " طوبى للغرباء" كثيرًا وعلمت أن "طوبى" معناها الفرحة وقرة العين والغبطة والسرور وتنتهي بالجنة .
قلت حسنًا يارب .
هذه جنة الآخرة وهذا هو عدلك المطلق فأين نصيب هؤلاء في الدنيا كما قال لنا رسولك: "ولا تنسى نصيبك من الدنيا"
إنى أعلم ياربي أن هناك من خرج من هذه الدنيا بلا نصيب غير الشقاء .
وأعلم أن هناك من لم يذق طوال وجوده فى هذه الدنيا سوى الألم والحرمان .
ثم إننى أعلم أنك أعددت لكل هؤلاء الجنة لكنى مازلت أتساءل في نفسى: أين نصيبهم ياربي في الدنيا ولا أجد إجابة تهدئ شقاء تساؤلي .
كنت أحسب أن عبارة "العدل أساس الملك" كلمات مقدسة وهى تستحق من جلال معناها رغم أنها حكمة عظيمة ورغم إيماني بها إلا أنني تساءلت في نفسي عن هؤلاء الذين غادروا الدنيا دون عدل ودون انصاف ودون رحمة ومرة أخرى لا أجد إجابة إلا تلك التى كنت قد تلقيتها وأنا طفل صغير أن لهم الجنة .
تلقيت الإجابة ياربي لكن السؤال مازال يردد بداخلي: وماذا عن الدنيا .
أعلم أنهم يقولون أنها دار شقاء ودار اختبار ودار فناء وأنها رحلة عابرة لكن الشقاء بها كبير ياربي والظلم فيها متسع وطاقة النور تكاد تنحسر عن الضعفاء والمساكين والمنكسرة قلوبهم .
قرأت قول المسيح عنهم
"يَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ"
وقرأت دعاء نبيك "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
وأعلم كم هى عظمة الكلمات وكم هي روعة هذا الشعور وكم هو نبل هذا الخلق لكن هل يكفى هذا ياربي؟
لا أعلم مطلق حكمتك ولا أحيط بقطرة من علمك لكن السؤال لا يسكن وكلما رأيت شقاء هؤلاء الذين ليس لهم نصيب إلا في الألم انتفض السؤال بداخلى يشقينى بينما تأبى الإجابة إلا أن تمزقنى، تَضِن علىّ بما يقنعنى ولا أجد سوى ما تلقيته وأنا طفل العاشرة. إنها الجنة .
إذن لا مفر ياربي من استدعاء طاقتك العظيمة بداخلنا التي تتجلى فى كلمة واحدة هى: "حكمتك"
ربما كانت تلك الكلمة بما تحمله من معانٍ هي الإجابة التي تهدئ جلجلة السؤال بداخلي .
"حكمتك"
حقًا هي ولا ريب .
ربما يبدو من حديثي أننى اقتربت من منطقة الشك وهو ما يره الناس شرًا . ولو كان الأمر كذلك فأنا أعتصم بقولك عندما سألك أبو الأنبياء إبراهيم كيف تحيي الموتى إذ تقول ياربى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .."
إنه لو كان شك فهو (الشك المغتفر) الذى يرتد يقينًا في القلب .
فالدين كما يقول توفيق الحكيم فى أحاديثه إليك عقيدة ثابتة لكن العقل أفكار متحركة .
لقد سمحت لنفسى أن أبوح بكلماتي التي طالما تردد صداها بداخلي .
لقد سمحت لنفسي أن أتساءل: أين جنة البائسين على الأرض ياربي ..أين عدل المظلومين في الأرض ..أين جبر المنكسرين في الأرض .
لقد سمحت لنفسي ذلك وبصيص كلماتك يختلج به قلبى ورجفة من سمائك جعلتنى ابتهل في خشوعٍ:
"وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا"
"وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا"