لطالما كان الإعلام -وسيظل- سلاحًا مُشْهَرًا بيد حامله فى أوقات السلم كما هو فى أوقات الحرب؛ فالوعى المبتنى فى أوقات السلم كفيل بصون الجبهة الداخلية وتحسين الصورة الخارجية فى أوقات القلاقل والاضطرابات. وبالقدر ذاته من الاضطراد كانت الاتهامات والاتهامات المضاد تُكالُ -وستظل- بين المنصات الإعلامية ورعاتها ومموليها. والحاصل من طويل التجارب أن الكلمة العليا لصاحب الصوت الأعلى... فنحن نعيش زمن منطق القوة، لا قوة المنطق... زمن حق القوة، لا قوة الحق.
فجعنى وفجَعَ كل صاحب ذرة من ضمير ذلكم الاستهداف الغاشم الآثم للمستشفى المعمدانى فى غزة يوم ١٧ من أكتوبر ٢٠٢٣ فى قطاع غزة. كنت ساعتها أجلس إلى حاسوبى لأنجز أعمالى، فانبريت أمارس هوايتى المعتادة: تصفّح المنافذ الإعلامية (لا سيما التلفزة، بحكم أنها الأقرب إلى المشاهد على المنصات المختلفة) كى ما أقف على مدى الإنصاف والمهنية فى التناول الإعلامى للحدث الجلل الذى يخالف المادة ٢٨ من القانون الدولى الإنسانى العرفى، وينسف كل مفهوم قانونى وإنسانى وقيمى مهما كان منبعه أو مرجعه.
وعلى ذلك، أعرض على القارئ الكريم فى ما يلى تسلسلاً زمنيًا سريعًا وغير شامل للتناول الإعلامى («التغطية» الإعلامية كلمة فى غير محلها لغويًا!) منذ بداية الحرب حتى يتسنى فهم التناول الإعلامى لحادثة المستشفى المعمدانى. وسيتخلل العرض تعريجًا على أداء / استراتيجية منفذين إعلاميين لهما وزنهما مع اختلاف الإمكانات والخبرات: قناة القاهرة الإخبارية (العربية المصرية)، وقناة CNN الأمريكية. والبداية بالأخرى لما لها من باع وأسبقية تجعلها جديرة بذلك.
أقرر بدايةً أن هذه المراحل ليست انتقالية متنافية، بل حرصت وسائل الإعلام العالمية على التكامل بين تلك المراحل، فهى لا تنتقل من إحداها إلى الأخرى بالتَرْك، بل بالدمج.
المرحلة الأولى: مرحلة التدرج فى التناول الإعلامى. وقد انطوت على سمات. أبرزها: (١) إظهار الصدمة. أى الصدمة مما جرى فى ٧ من أكتوبر وأنه تجاوز كل معقول وأية قيمة إنسانية أو حتى حربية! مع تحويل دفة التركيز عن الإخفاق الإسرائيلى إلى بشاعة الهجوم على إسرائيل. وحتى مع استحضار المقارنة بين ما حدث فى ٦ من أكتوبر ١٩٧٣ وما حدث فى ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣، فإن الفكرة موضع التركيز لا تتعلق بالإخفاق الإسرائيلي؛ بل بالكيد الشيطانى والمكر العربى الخبيث الذى لا يراعى إجازة دينية ولا يتورع عن فعل أى شيء لتحقيق مصلحته – فتصبح الرسالة: أليس منكم يا عرب من يتحلى بالرجولة الكافية للمواجهة فتغيرون فجأة وتستبيحون كل شيء وكل حياة فى سبيل ذلك؟
أما السمة (٢) فتمثلت فى «التبشيع»، أى شيطنة ما فعتله حماس، واستحضار مصطلحات غابت -أو كادت تغيب- عن ثنايا الأخبار من قبيل «هجوم داعشي» و«إرهاب داعشي» و«مجزرة» و«مذبحة» وما إلى ذلك، ووصم هجوم المقاومة الفلسطينية بتلك الأوصام تمهيدًا لما سيأتى عرضه. وأما السمة (٣) فى المرحلة الأولى فتمثل فى «الإعذار»، أى التمهيد لرد الفعل الإسرائيلى بكل عنفوانه وجبروته ولامعياريته بالتماس كل العذر وكل التبرير لما ستُقدِم عليه إسرائيل من أفاعيل.
المرحلة الثانية: مرحلة المتابعة الإعلامية لما يحدث. وقد انطوى ذلك على سمات، أبرزها: (١) تأكيد «الإعذار» لإسرائيل وأن ما تفعله هو رد فعل، لا فعل... وكأنها ليست بدولة احتلال، وكأن غزة ليست محاصرة منذ ١٧ عامًا، وأنفاس سكانها تكاد تُحصى عليهم! ثم جاءت السمة (٢) «تحويل الانتباه»، فكلما غالت إسرائيل فى الاستهداف المفرط ومخالفة القانون الدولى أمعنت CNN وأخواتها فى التركيز على أمور أخرى كإبراز تصريحات متطرفين عن التهجير إلى سيناء، فالهدف هنا هو إشغال الدول المستهدفة بالتهجير (مصر خصوصًا ثم الأردن) وإشغال الرأى العام فيها عن جرائم الحرب التى تُرتكب فى غزة؛ وواكب ذلك سمة ثالثة (٣) هى «الاستبكاء»، أى استدرار التعاطف من العالم أجمع على «ضحايا» المقاومة الفلسطينية، فصارت كاميرات CNN تبتعد عن متابعة غزة واستهدافها وتجلس فى قاعات فنادق «تل أبيب» المكيفة أو تذهب (منذ يومين أو ثلاثة) إلى التجمعات السكانية الإسرائيلية المستهدفة لتصوير ما حدث... أما قاعات الفنادق فضمت أهالى الأسرى من الإسرائيليين، مع التركيز على مزدوجى الجنسية لاستحثاث التحرك الحكومى الرسمى من دولهم (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها)؛ لينشغل المتابع بمآسى الحزن على الأحياء الأسرى وبالمكلومين من ذوى القتلى، عن متابعة الجرائم التى لا تتوقف فى غزة بكل ما فى ذلك من انتفاء لأى تناسب فى رد الفعل.
اقترن ذلك أيضـًا بالسمة (٤) المتمثلة فى «استحثاث الإدانة» من كل ذى صفة؛ فرأينا مثلا كبار الممثلين فى هوليوود يخاطَبون لإبداء التضامن والنصرة لإسرائيل. وفى حين نأت الرياضة الدولية بنفسها -من قديم- عن الخوض فى الصراعات السياسية إلا أن الضغوط الإسرائيلية والمؤيدة لإسرائيل دعت كبار الرياضيين فى العالم إلى إعلان مواقف صريحة مؤيدة، فرأينا جيانى إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم (فيفا) يضطر (حسب كلام CNN نفسها!) إلى التدوين على موقع «إكس» (تويتر سابقًا) وغيره مبديًا التعاطف! قارن هذا الموقف بالسباح المصرى عبد الرحمن سامح الذى فاز بميدالية دولية فى السباحة وجاءه الإعلام ليسجل معه فور خروجه من المسبح فقال بإنجليزية سليمة إنه يتعذر عليه الاحتفال وإخوته يُقتَلون فى غزة، فإذا بالاتحاد الدولى للسباحة يسحب صوره من التكريم، ويتلقى عبد الرحمن تهديدات بالقتل والترهيب! إن لم تكن هذه ازدواجية فى المعايير، فماذا عساها تكون؟!
المرحلة الثالثة: انطوت المرحلة الثالثة على سمات أبرزها: (١) «التحييز الإعلامي»، بمعنى عدم إفساح المجال للتعقيب من جانب طرف «الحرب» الآخر الذى قالوا إنه حماس، بل دأبت CNN ومثيلاتها على عرض الصورة النمطية عن المقاومة الفلسطينية الجانية والشعب الإسرائيلى الضحية المجنى عليه، فيما كان لمناصرى إسرائيل من سياسيين ورياضيين وإعلاميين وعسكريين من إسرائيل ومن خارجها نصيب الأسد من الحيز الإعلامى. أما السمة الثانية (٢) فتمثلت فى «أحادية السردية» الإعلامية، أى توجيهها فى اتجاه واحد بعنوان أوحد هو: «Israel at War» (إسرائيل فى حالة حرب!)... هذا هو عنوان العرض الإخبارى، والبرامجى، وبداية الفواصل ونهايتها... وغابت الصورة عن غزة... وفى حدود متابعتى شبه المتواصلة لم أجد مراسلا واحدًا على الأرض لشبكة CNN فى غزة، فيما لديها عدد كبير من المراسلين موزعين فى مدن إسرائيل ومناطقها، وبعضهم من أبرز مذيعى الشبكة. هنا تجد عجبًا إذا علمت أن هذه الشبكة وغيرها من المؤسسات الإعلامية الأمريكية والغربية قد ارتضت استضافة قادة طالبان وعمل لقاءات متلفزة وغير متلفزة معهم وبثها على شبكاتهم... وصولاً إلى التصريح بالتعامل الرسمى مع طالبان على الرغم من أن طالبان وحماس يجمعها توصيف واحد لدى الغرب! الفارق الأوحد هنا أنه طالبان ليست فى حالة حرب مع إسرائيل. وأما السمة الثالثة (٣) فهى «الضنّ بالشر المفيد!» لا تستغرب عزيزى القارئ، فبعض الشر مفيد! وفى سياقنا هذا أعنى أن التناول الإعلامى الغربى أصر منذ اللحظة الأولى على أن إسرائيل فى حالة حرب مع «حماس»، لا مع المقاومة الفلسطينية عمومًا كما صرحت حماس نفسها (لأن المقاومة مكفولة فى القانون الدولى ضد المحتل، وما زالت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى يريان أن إسرائيل «تحتل» بعض المناطق التى ينبغى الانسحاب منها)... ضنّت تلك المنافذ على المقاومة بذكر اسم «دولتها» على ما فى ذلك من شر يطالها، لا لشيء إلا لكى لا «يستفيد» الشعب الفلسطينى من التسليم -ولو ضمنًا- بأن له دولة، حتى ولو كان ذلك فى سياق الوصم والتبشيع.
المرحلة الرابعة: اتسمت هذه المرحلة بسمات منها (١) «دفع التلاوُم»، بمعنى أنه لو كان من محل ومنطق لتبادل اللوم بين إسرائيل وحماس فقد آن الأوان إلى دفع اللوم عن إسرائيل بالقول إن حماس هى السبب فى رد الفعل الإسرائيلى، وعلى ذلك فحماس مسئولة عن كل الوفايات والإصابات بين أهالى غزة. أما السمة الثانية (٢) فهى «ذهنية الاجتزاء»، بمعنى أنه كلما استضافت CNN شخصية قد تكون محسوبة على الجانب الفلسطينى أو تميل إليه سألته السؤال المعتاد: هل تدين ما فعلته حماس؟ فإذا رد الضيف بأن المسألة أطول وأعمق من «طوفان الأقصى» وأننا أمام احتلال جاثم على الصدور منذ ٧٥ عامًا، جاءه الرد: لا تحدثنا عن الماضى، بل حدثنا عن العملية الإرهابية التى حدثت يوم ٧ من أكتوبر. وهذا الاجتزاء يتعارض كليًا مع ما تذهب إليه تلك القنوات فى مواقف أخرى كما سيتجلى فى السطور التالية (اقرأ حيلة «توظيف التاريخ» أدناه). ثم تأتى السمة (٣) المتمثلة فى «الكذب البواح»، مع ترديد الرئيس الأمريكى شخصيًا وبعض المذيعين (مثل سارة سيدنر من CNN) كذبة التمثيل بأربعين طفلا إسرائيليا فى خلال هجوم حماس، ونقل ذلك وبثه بإلحاح عبر كل المنافذ والوسائل والمنصات الإعلامية (هذا ما يعرف فى علوم الإعلام باسم Media Convergence؛ أى إعداد محتوى يليق بالعرض عبر كل الوسائل). وما كاد يثبت كذب هذا الخبر حتى يكون الاعتذار عنه مكتومًا من المذيعة المذكورة بتغريدة على حسابها على موقع «إكس» قائلة إنها «كان ينبغى أن تكون أشد حذرًا فى الكلام»!
السمة (٤) فى هذه المرحلة هى «سياسة التضامن الجبري»، بمعنى أنه كلما زار تل أبيب ضيف مهم (مثل المستشار الألمانى شولتز) أوهموه أن صواريخ حماس ستنهمر عليه، فيهرعون به إلى ملجأ، فيجبرون بذلك المسئول (وشعبه من ورائه) على التضامن مع الرجل الذى «نجا» للتو من عدوان وشيك كاد يودى بحياته.
المرحلة الخامسة: هذه المرحلة هى مرحلة استهداف المستشفى المعمدانى، وهذه واقعة جديرة بإفرادها بمرحلة لأنها انطوت على السمات الآتى بيانها: (١) «التجاهل المؤقت»، فشبكة CNN لم تذع خبر استهداف المستشفى المعمدانى إلا بعد ما أذاعته القاهرة الإخبارية (التى لها شبكة مراسلين فى قلب غزة) بنحو ٤٥ دقيقة! وأما السمة (٢) فهى «قطف ثمار التبشيع»، فبعد تشويه صورة المقاومة الإسلامية ووصمها بالإرهاب والكذب والخيانة وما إلى ذلك، أمكن الآن اتهامها (من جانب إسرائيل، والترويج لذلك غربيًا) بأنها هى التى استهدفت المستشفى؛ وعندما زار بايدن إسرائيل يوم الأربعاء ١٨ من أكتوبر ردد هذا الكلام بنفسه. ثم (٣) «ادعاء المهنية»، وقد تجلى هذا فى تورُّع مذيعى CNN عن الجزم بمسئولية إسرائيل عن الواقعة متذرعين بأصول المهنة، مع تبنى الرواية الإسرائيلية المنكِرة للاستهداف، وعرض مقطع لقادة عسكريين إسرائيليين مصور من الجو للتلاعب بعقول المشاهدين والتركيز على أن إصابة المستشفى بالمتفجر لم يحدث أضرارًا فى المبانى المجاورة، وهذا دليل على أن إسرائيل لم تقصف المستشفى لأن قصفها دائما ما يتسبب فى الإضرار بالمبانى والمنشآت المجاورة! ما أغربه من تبرير! هذه القدرة النيرانية ليست متوفرة أصلا لدى الفلسطينيين وإلا لاستخدموها ضد إسرائيل! ثم إن هذا التبرير الإسرائيلى أجدر أن يبشّع كل ضربة إسرائيلية، لا أن يدفع عنها اللوم! أما السمة (٤) فهى «التهوين»؛ فقد أصرت CNN على أن عدد القتلى يتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ قتيل فقط، فيما كانت القاهرة الإخبارية تتابع وتحصى وتقابل ناجين من الانفجار وتقاطع مراسليها لبث كلمات الناجين ومشاعرهم، وسرعان ما بلغ الإحصاء ٥٠٠ قتيل ثم زاد بالمئات، وما زالت CNN على سياسة التهوين فى العدد... وقد بات ذلك ممكنًا بعد سيل الشهداء مع كل قصف منذ اليوم الأول للسيوف الحديدية. وأما السمة (٥) فهى «الخطاب اللغوى المبطّن»، بمعنى أن CNN صارت تعرض أخبار المستشفى المريعة هكذا: «نقلا عن حماس: مقتل المئات بضربة إسرائيلية على مستشفى فى غزة» (النقل عن حماس بعد تبشيعها يعنى التشكيك فى روايتها، واسم المستشفى مطموس لعلة! فيما كانت القاهرة الإخبارية تحاور وزيرة الصحة الفلسطينية)، أما الأخبار المستحسنة عن الواقعة فتعرضها CNN هكذا: «إسرائيل: التحقيق فى أنباء عن استهداف مستشفى فى غزة» (أى أن إسرائيل هى الجانب الملتزم بالقانون العاكف على التحقيق). وأما السمة التالية (٦) فكانت «الخطاب المصوّر المبطن»، فبينما كانت القاهرة الإخبارية تنقل من قلب الحدث فى غزة، كانت CNN تتناول الخبر على لسان مراسليها كلاريسا وارد (من عسقلان) وأندرسن كوبر (من تل أبيب)، فلا مصاحبة للصورة البشعة والجثامين ونواح المكلومين... علما بأن CNN اعتادت ذات يوم النقل عن «الجزيرة» متى أحبت؛ ولو شاءت لنقلت عن الغير تحريًا للمهنية بما أنه لا يوجد لها مراسل فى غزة نفسها... ومن قبيل «الصورة» أيضًا حرص مذيعى CNN وغيرهم (بل تباريهم) فى ارتداء رابطات العنق الزرقاء والملابس السوداء والرمزيات الأخرى لإعلان التضامن مع إسرائيل، فيما كان مذيعو القاهرة الإخبارية يرتدون الأسود أيضًا مع ألوان أخرى لا تخطئ العين ارتباطها بالعلم الفلسطينى والشال الفلسطينى. تواكب ذلك مع استدعاء CNN سمة سابقة هى «تحويل الانتباه» بنسيان واقعة المستشفى المعمدانى بالحديث عن الأمريكيين العالقين فى غزة عند المعبر! وآخر الكلام يُنسى أوله! (عملية نفسية معروفة اسمها «الكف اللاحق»). وأردفت CNN ذلك بسمة أخرى هى (٧) «حيلة النفي»، وذلك باختتام الخبر بأن إسرائيل تحقق فى وقوع هذه الضربة من عدمه... أى أن نفى الواقعة من الأساس بات احتمالاً قائمًا فى ذهن المشاهد.
أعقب ذلك سمة أخرى هى (٨) «توظيف التاريخ»، فمع تحويل الانتباه عن استهداف المستشفى إلى العالقين الأجانب فى غزة و«إرهاب حماس» واتخاذها أسرى من كبار السن والأطفال (على الرغم من التباعد بين الموضوعات فى ظل التناول المتتابع دونما فواصل)، اتجهت CNN إلى وصم كل العرب بفعل حماس... فاستدعت لذلك إقدام الرئيس العراقى صدام حسين على احتجاز رهائن غربيين إبان تشكيل التحالف الدولى ضده لإخراجه من الكويت بعد غزوها فى ١٩٩٠. والسؤال هنا: ما الذى يدعو شبكة بحجم CNN إلى هذا الوصم الجماعى للعرب وليّ أعناق الوقائع التاريخية على هذا النحو لتوظيفها فى أحداث اليوم؟ الإجابة تقتضى تساؤلاً أوليًا، هو: ما القاسم المشترك بين صدام وحماس الذى أرادت CNN «بيعه» إلى المشاهد؟ القواسم المشتركة هي: كلاهما عربى، كلاهما مسلم، كلاهما استهدف إسرائيل، كلاهما عدو لأمريكا، كلاهما (حسب المراد هنا) ينتصر بأخس الأساليب (الأسرى والرهائن).
تخلل ذلك لجوء CNN إلى حيلة أخرى (٩) هى «التتابع الخبري»، إذ استضافت وزير الخارجية المصرى السيد سامح شكرى، وتخللها ممارسة حيلة «ذهنية الاجتزاء» السالف بيانها، لكن الوزير أحسن الرد والإبانة. لكن «تتابع» الأخبار بعده مباشرة وفى البرنامج نفسه مع المذيعة كريسيتان أمانبور جاء فيه التعريج على «أسرى» إسرائيل الأبرياء الضعفاء لدى حماس، وواقعة صدام السالف بيانها. وبذلك تتحقق حيلة «الوصم الجماعي» كما سلف عرضه.
انبثق من الوصم الجماعى حيلة تشكل سمة عاشرة (١٠) هى «تَصْهين التناول الإعلامي»، بمعنى أنه يلزم ألا يكون صوت أعلى من الموقف الصهيونى... فعلى الرغم من أن المستشفى المعمدانى مستشفى مسيحى يتبع الكنيسة الأنغليكانية، وأنه من أقدم المستشفيات فى غزة، وأن الكنيسة الأنغليكانية كنسية غربية (بريطانية)، فقد دأبت CNN ومثيلاتها على حذف كلمة «معمداني» بكل دلالاتها المسيحية (نسبة إلى يوحنا المعمدان عليه السلام)، واكتفت بتسميتها المستشفى «الأهلى العربي»... وباستدعاء الوصم العام للعرب على مدار الأيام السابقة تكون الرسالة المبطنة هى «أن العرب مسئولون عما يحدث لهم بأيديهم». أضف إلى ذلك أنهم كلما جاءوا على ذلك المستشفى ابتدروه بعبارة Hamas-run أو Hamas-controlled، أى الخاضع لإدارة حماس! وباستدعاء ما سلف بيانه من تبشيع حماس وتكذيبها يسهل الطعن فى الخبر كليًا أو -على أقل تقدير- تقسيم من هم وراء الخبر إلى معسكرين: حماس الكاذبة، وإسرائيل المستنفرة للتحقيق فى الواقعة! بذلك يتجلى أن المراد صَهْيَنة التناول الإعلامي؛ فالمستشفى تابع للكنسية الأسقفية الأنغليكانية فى القدس... والرسالة واضحة: كل مرجعية غير يهودية فى القدس خصوصًا وفى فلسطين عمومًا يلزم محوها. أما قناة القاهرة الإخبارية فقد التزمت باسم المستشفى فى عرضها الإخبارى، وكانت مراسلتها فى قلب الحدث حقًا.
لم تكتف CNN بذلك، بل سعت إلى حيلة جديدة (١١) هى «غسل السمعة»، إذ استعانت بمذيعتها التى اعتذرت «فى الخفاء» عن كذبها فى مسألة اتهام حماس بقتل ٤٠ طفلا إسرائيليًا بتكليفها بعمل تقرير عن «مستشفى إسرائيلي» فى تل أبيب يعمل فى ظل ظروف «قاسية»... فالمراد النفى الذهنى لخبر المستشفى المعمدانى بسَوْقِ تقرير مصور واحتفائى بالمستشفى الإسرائيلى الكائن فى تل أبيب. ووجه الاحتفاء به أنه يعمل فى «مرآب سيارات» لأحد الأبراج السكنية... فها هى حماس الإرهابية تجبر المرضى الإسرائيليين على النزول إلى أقبية المبانى وتحويلها إلى مستشفيات مؤقتة! ومع ذلك فرسالة التقرير تكتمل بالإعجاب الشديد بالقدرة الإسرائيلية المتطورة طبيًا وتكنولوجيًا لأن المستشفى «متكامل الخدمات كليًا» حسب كلام التقرير. العجيب فى التقرير أن مدير هذا المستشفى أخزى المذيعة من غير قصد، ونفى الفائدة من التقرير كليًا عندما قال من غير أن يقصد: «هذا المستشفى مجهز منذ حرب لبنان فى ٢٠٠٦» لأننا تعلمنا الدرس!
وأخيرًا، اقترن كل ما سبق بخديعة (١٢) «تثبيت الموقف»، أى تثبيت الوصم العام للعرب عمومًا وحماس خصوصًا، وتثبيت الزعم بوحدة الجبهة الداخلية الإسرائيلية بإبراز تشكيل حكومة الطوارئ التى كانت مستعصية على التشكيل قبل ٧ من أكتوبر، وبإبراز بيانات التنظيمات الإسرائيلية التى كانت قد اجتمعت على رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية أو الاستجابة لدعوات استدعاء قوات الاحتياط... فقد باتت إسرائيل موحدة قوية.
وختامًا: تلزم الإشارة فى هذا المقام إلى أمرين: (١) توقف الحرب يعنى بداية المراجعة والتحقيق ثم المساءلة والحساب فى إسرائيل؛ وهو ما يجعل حكومة الطوارئ الحالية فى أمسّ الاحتياج إلى إطالة أمد الحرب مع تحقيق أى مكاسب ولو كانت لاإنسانية ولاأخلاقية لا لشيء إلا لحفظ ماء الوجه والمصير السياسى. (٢) إن الحياد الإعلامى أكذوبة محضة... وعلى ذلك فالواجب أن يكون «حيادنا هو مصلحتنا»... والخط العام الملموس فى القاهرة الإخبارية هو الإعلام الرصين، بلسان عربى مبين، وفق محددات الأمن القومى العربى... فيا حُسْن ما انتهجوا!