لقد وَعدتك أَن نَنظر إلى بَيتِنا مِن حافة القَمر
_عن الكاتب يزن حدادين
-《إلى أين تَأخُذني؟》
-《فقط أَبقي عَينَيكِ مُغلَقَتَين يا حبيبَتي .. كِدنا نَصِل ..》
-《لماذا تَوَقَّفنا؟》
-《لقد وَصَلنا .. الآن يُمكِنُكِ أَن تَفتَحي عَينَيكِ ..》
-《يا إلهي!!! ..》
نَظَرَ إلَيها بعَينَين تَملؤهُما دُموعٌ مُتَلألِئةٌ مع ابتِسامةٍ راجِفةٍ .. مُنتَظِراً مِنها المَزيدَ من الكَلِمات ..
-《حبيبي!! يا إلهي!! هل هذا حَقيقيّ؟؟ آه كَم تَبدو الكُرَةُ الأَرضِيّة صَغيرَةً مِن هُنا .. أُنظُر!! .. إنّها أَصغَرَ حَجماً مِن كَفِّ يَدي ..》
-《نعم يا حَبيبَتي .. هذا حَقيقِيٌّ تَماماً كحَقيقَة أَنَّكِ قَد وُلِدتِ مِن رَحمِ امرَأةٍ ..
لقد وَعدتُكِ أَن نَنظُرَ إلى بَيتِنا مِن حافَّة القَمَر .. وها نَحنُ هنا ..》
أَغمَضَت عَينَيها وأَخَذَت نَفَساً عَميقاً كَمَن تُحاوِلُ أَن تَستَنشِقَ الفَضاءَ بأَكمَلِه .. أَمسَكَ هو يَدَها وفَعَل مِثلَها .. بَدَآ بتَحريكِ جَسَدَيهِما بحَرَكَةٍ مَوجِيّةٍ بَطيئَةٍ .. مُتَجاذِبَينِ عَكس الجاذبِيّة .. مُتَّحِدَين مُتَحَدِّيَين فيزياء الطَّبيعة ..
احتضَنَها مَن خَلفِها وطوَّقَ خاصِرَتَها واتَّكأَ برَأسهِ على كَتِفِها .. قاما بتَرنيمِ بَعضٍ مِن المَزامير الرّوحِيّة بتَناغُمٍ عَذبٍ، في عُمقِ فَضاءٍ صامِتٍ تَملؤه النُّجومُ مِن كُلِّ ناحِيةٍ .. بمَشهَدٍ تَقشَعِرُّ لهُ الأَبدان ..
بعدَ هُنَيهَةٍ، أَنهَيا رقصَتَهُما بتَباطؤٍ سينَمائِيٍّ .. صَمتَ كُلُّ شَيءٍ .. لا يمكنكَ سَماعَ سوى صَوت أنفاسِهِما ونَبضاتِ قَلبَيهِما ..
-《أحِبُّكَ ..》
وَضَعَ يَدَيهِ على بَطنِها ..
-《أُحِبُّكُما ..》
-《حانَ الوَقت .. هُنا نَقِف .. هُنا نَرقُص .. هُنا نُوَدِّعُ هذا العالَمَ .. هُنا تَفتَرِقُ روحانا ..
-《حانَ الوَقت .. هُنا نُحَلِّق .. هُنا نَضيع .. هُنا يَنتَهي كُلُّ شَيء ..》
ما أَن قاما بفَصلِ نَفسَيهِما عَن المَركَبة .. حتى حَلَّقا بَعيداً، كتَطايُر الرّيش .. بدَوَرانٍ شَديدٍ لا يُمكِنُ إيقافَه ..
رفَعا ذِراعَيهِما عالِياً، حتى أَصبحَ دَوَرانُهُما أَشبَهَ بالرَّقصِ الصّوفيّ ..
ابتَعَدا كَثيراً عَن بعضِهِما إلى أَن تَلاشَت الرّؤية ..
-《حبيبَتي هل تَسمَعيني؟؟ .. هل تَسمَعيني؟؟ .. حَوِّل ..》
.... (تشويش) ....
-《أَسمَعُكَ لكن ليس بوُضوح .. حوّل ..》
.... (تشويش) ....
-《يا قُرَّةَ عَيني .. استَمتِعي بعَظيمِ هذا الكَون قَبلَ نَفاذ الأُكسِجين ..》
-《لا تَتَوقَّف عَن الكَلام .. أَوَدُّ الغِيابَ على ذِكرى صَوتِكَ الدّافىء الذي لطالَما عَشِقتُهُ ..》
.... (تشويش) .... (صوتُ تَنَفُّسٍ ثَقيلٍ) .... (تشويش) ....
-《هل تَسمَعينَ هذا الصَّمت؟؟ .. لا يُمكِنُني سَماعَ القَنابِلِ والبارودِ مِن هُنا ..
أُنظُري إلى كَوكَبِنا كَم هو رائِع!! .. أُنظُري إلى مَزيجِ الحَياة المُتَناسِقِ بَينَ أَلوانِه!! ..
كَم فَشِلنا نحن البَشَر .. نَقضي أَعمارَنا في حِقدٍ وكَراهِيّةٍ .. قِتالاتٍ وحُروبٍ .. بُكاءٍ وحُزنٍ .. طُغيانٍ وظُلمٍ ..
أُنظُري كَم هو صَغيرٌ هذا الكَوكَب ..
أنظُري كَم هو عَظيمٌ هذا الكَون ..
ما نَحنُ؟؟ .. نَحنُ لا شَيء .. نَحنُ مُجَرَّدُ مَخلوقاتٍ حُدودُها السَّماءُ والأَرض .. نَهينُ الجَمالَ لنَرى القَباحَة .. نُبَجِّلُ الجَسَدَ ونَبغُضُ الرّوحَ .. شُعورُنا سَطحِيٌّ .. عَواطِفُنا هَشَّةٌ ..
نَعيشُ كما لو أَنَّنا مَركِزُ هذا الكَون، ولا نَعلَم أَنَّنا نَكِرةٌ أَمامَ اتِّساعِ هذا الفَضاءِ اللّامُتَناهي ..
نحن لا نَستَحِقُّ الحَياة .. لا نَستَحِقُّ الجَمال ..
أُنظُري لهذه النُّجوم التي لطالَما سَهِرنا لَيالٍ نُحصي عَدَدَها .. أُنظُري لهذه الشَّمس التي لا تَمِلُّ مِن أَن تُشرِقَ كُلَّ صَباحٍ بإخلاصٍ وتَفانٍ لإنارَة كَوكَبِنا الضّال ..》
.... (تشويش) ....
-《أحبَبتُكِ مُنذُ اللَّحظَة التي أَطلَعتِني فيها على سِرِّكِ الدَّفين .. حين قُلتِ لي أَنَّ هذا الكَوكَبَ ليس لَنا .. وها نَحنُ ذا نُحَقِّقُ ما حَلُمنا به ..》
.... (تشويش) ....
-《يا طِفلَتي .. هل تسمعيني؟؟ ..》
.... (تشويش) ....
-《ااااااه .. انقَطَع الإرسال ..
ولَم أَعُد أَراكِ ..
أَعتَقِدُ أَنَّكِ قَد ابتَعَدتِ كَثيراً ..
حَسَنٌ .. سأُنهي الاتِّصالَ هُنا ..
تذَكَّري عَهدَنا يا نورَ قَلبي ..
سأُحِبُّكِ إلى أَن تَتَوقَّفَ الأَرضُ عن الدَّوَران .. وتَسقُطَ النُّجوم .. وتُطفَأَ الشَّمس .. وتَتَبخَّرَ الكُواكِب .. وتَحتَرِقَ المَجَرّات .. ويَتلاشى الكَون .. ويَفنى كلُّ شَيء ..
إلى اللّقاء ..》
ثم خَلعَ خُوذَةَ بَزَّتِه .. وتَوقَّفَ النَّبض ..