الجمعة 05 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

الخطبة ليست عقدًا في ذاتها ، وإنَّما هي مجرد وعد بالتزويج؛ ولذا فإنَّه يجوز لكلِّ واحد من طرفيها أن يفسخها متى رأى أنَّ مصلحته في فسخها وعدم إتمام عقد النكاح الذي شُرِعَتْ الخِطبة لأجله من غير إثم ولا إنكار من قبل الشرع؛ لأنَّ الخطبة ما شرعت في ذاتها إلا كمقدمة لعقد النكاح، وفرصة للوقوف على حال الآخر عن قرب، مع ضوابط محددة قبل الارتباط بالعقد الملزم وهو عقد النكاح، ومع ذلك فإنَّه يكره العدول عن الخطبة من غير سبب معقول؛ لأنَّ الوعد وإن لم يكن مُلْزِمًا إلا أنَّه يندب للمسلم الوفاء به، ويكره له الرجوع عنه لغير سبب معقول، ولأنَّ الخطبة شُرِعَتْ لتُوَصِّل إلى عقد الزواج وليست لذاتها، وبها استحل الخاطب ما لا يحل لغيره بحكم الشرع من النظر ونحوه، ولأنَّ فسخ الخِطبة لا يخلو عن بعض الضرر الذي يلحق المفسوخ عليها، لا سيما المخطوبة إن كان الفسخ من جهة الخاطب، وقد نصَّ فقهاء المالكيَّة على أنَّه يكره لمن ركنت إليه امرأة وانقطع عنها الخطاب لركونها أن يتركها، إلا أنَّه يبقى فسخ الخطبة جائزًا على كلِّ حال في حقِّ الطرفين.
وقد جرت عادة الناس على تبادل الهدايا بين الخاطب ومخطوبته وأسرتيهما، وتتفاوت قيمة هذه الهدايا حسب أحوال الخطاب وتفاوت الأزمنة والأمكنة، كما تتنوع الهدايا بين مأكول وملبوس، وما يدخر وما يستهلك، وقد يعجِّل الخاطب دفع المهر المُتَّفَق عليه مع أهل مخطوبته عند قبوله خاطبًا أو جزءًا منه، فإذا فسخت الخطبة فقد يقع خلاف بين الخاطب وأهل المخطوبة حول استراد ما تمَّ تبادله بينهم أثناء الخطبة، وقد فصَّل الفقهاء من سلفنا حكم استرداد ما تمَّ تبادله بين الطرفين أثناء الخِطبة.
فهم يتفقون حول أحقيَّة الخاطب في استرداد ما دفعه لأهل المخطوبة من المهر قَلَّ أو كَثُر، وسواء أكان الفسخ من قِبَلِه هو أم من قِبَل المخطوبة أم وليِّها، حيث إنَّ المهر يستحق بالعقد أو الدخول، وكليهما أو أحدهما لم يحدث بعد، فلا وجه لاستحقاق المخطوبة أو أهلها شيئًا منه.
فإن كان المهر باقيًا بعينه استرده، وإن كانت المرأة اشترت بالمهر جهازًا أو بعضه بعلمه، ثم عدل الخاطب فللمرأة الخيار بين ردِّ المهر نقدًا أو تُسلِّم ما يساويه من الجهاز وقت الشراء.
أمَّا الهدايا المتبادلة بين الطرفين فللفقهاء تفصيل في المراد بها وفي حكم استردادها؛ إذ يراد بها كلُّ ما يقدمه أحد الطرفين للآخر من غير اشتراط عليه بقطع النظر عن قيمته الماليَّة أو مسمّاه العرفي، حيث يطلق أحيانًا على ما يدخل في مسمى المهر كالشبكة المشروطة هديَّة عرفًا أو العكس، فمن الهدايا تقديم الخاطب لمخطوبته بعض الملابس في المناسبات، أو ساعة أو حقيبة أو هاتف محمول ...ونحو ذلك، وما تقدِّمه المخطوبة لخاطبها بمناسبة ما يسمى بعيد ميلاده وفي المناسبات المختلفة من ملابس وحقائب ونحو ذلك.
وقد تعددت أقوال الفقهاء حول استرداد الهدايا بعد فسخ الخطبة، فيرى الحنفيَّة: أنَّ الهدايا التي يتم تبادلها بين الخاطب ومخطوبته إذا فسخت الخطبة يُستَرد منها ما بقي بعينه، أمَّا ما استُهلك كالطعام والشراب والثياب وغير ذلك، فليس لأحد منهما أن يسترد بدله؛ لأنَّ الهدايا حكمها حكم الهبة وللواهب أن يسترد الموهوب إن كان باقيًا بعينه، وليس له أن يطالب بما تلف أو استُهْلِك منه.
والمالكيَّة: يفرقون بين كون العدول من قِبَلِ الخاطب وبين كونه من قِبَل المخطوبة أو وليها، فإن كان العدول من جهة الخاطب، فليس له أن يسترد شيئًا من الهدايا المستهلكة أو الباقية، وإن كان العدول من قبل المخطوبة أو وليها، فله أن يسترد كلَّ ما قدَّمه ولو كان قد استهلك فيطالب بقيمته أو بدله.
بينما يرى الشافعيَّة والحنابلة: أنَّ الهدايا المتبادلة بين الطرفين لا تُستَرد بعد فسخ الخطبة مطلقًا، لا فرق بين كون الفسخ من الخاطب أو المخطوبة أو وليها، وبين كون الهدايا باقية أو مستهلكة؛ لأَّن الهدايا كالهبات، ولا يجوز عندهم للواهب أن يسترد ما وهب بعد القبض.
وما ذهب إليه المالكيَّة من التفريق بين كون الفسخ من قبل الخاطب فلا يسترد شيئًا، وكونه من قبل المخطوبة فيسترد ما قدَّمه موافق لما يقتضيه العقل، ولا يوجد من الشرع ما يبطله، أمَّا كونه موافقًا للعقل والمنطق؛ فلأنه في حالة إعراضه عن الخطبة يكون هو المتسبب في فوات مقصده من إتمام الزواج، ويكون ما قدَّمه للمخطوبة بمثابة بعض التعويض عمَّا أصابها من أضرار من فسخ خطبتها، أمَّا إن كان الإعراض من جهتها فيكون فوات مقصد الخاطب بسببها، فلا أقلَّ من أن يسترد ما قدَّمه لأمر فُوِّت عليه.
وينبغي أن يكون الأمر كذلك في حقِّ المخطوبة، فإن كان الفسخ من قبلها فليس لها أن تسترد شيئًا من الهدايا التي قدمتها للخاطب، وإن كان الفسخ من قبل الخاطب فلها أن تسترد جميع ما قدمت إن كان باقيًا أو قيمته إن كان قد استهلك.
بقى القول بأنَّ الأصل إعمال العرف إن وجد، حيث إنَّ أقوال الفقهاء في المسألة اجتهاد يعتمد على العقل، وربما اعتمدوا فيه أيضًا على الأعراف السائدة وقتهم، فكلٌّ قال بما تبيَّن له بعقله أو بمراعاة عرف زمانه ومكانه، وأفضل من ذلك كلِّه وهو ما لا يختلف حوله الفقهاء أن يحرص كلُّ طرف على الإبقاء على المعروف بينه وبين الطرف الآخر، ولو كان بترك ما يحقُّ له استرداده من الهدايا ونحوها حتى لا يترتب على فسخ الخطبة ما لا يرجوه الشرع بين المسلمين من الشقاق أو الضغينة، وأن فسخ الخطبة لا يعني بالضرورة قطيعة ولا خصومة، وإنما أراد الله الخير بالطرفين و سبقت مشيئته
نقلا عن مجلة صوت الأزهر 

تم نسخ الرابط