إن القرآن الكريم هو معجزة نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- الخالدةالباقية إلى يوم القيامة، وهو حبل الله المتين، من تمسك به اهتدى، ومَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وقد جعل الله قراءته تعبدا، وتدبره ذكرا وتذكرا.
وإذا كانت قراءة المسلم له وتدبره إياه واجبا في كل وقت، فإنه في شهر رمضان أوجب، لأنه الشهر الذي شرفه الله بنزول القرآن فيه، ففرض الله فيه الصوم على المسلمين شكرا لله على نعمة نزول القرآن الكريم فيهم، قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" وإذا لم يكن الصوم في رمضان من باب الشكر لله على نعمة نزول القرآن فيه، فلماذا لم يفرض الله الصوم في غيره من أحد الشهور المحرمة التي عظم الله قدرها ورفع شأنها، فقَبْل رمضان من هذه الشهور رجب الفرد ، وبعده منها ذوالقعدة، وذوالحجة، والمحرم، فكان من الممكن أن يجعل الله أداء فريضةالصوم العظيمة القدر في أحد هذه الشهور العظيمة الشأن؟، ولكن لأن رمضان الذي عرفه الله: بأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن، فكان هو الشهر الأحق بأداء المسلمين لفريضة الصوم فيه.
وفي إحدى ليالي هذا الشهر كان نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا؛ ليتنزل بعد ذلك على قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متتابعا وفق الوقائع والأحداث، وقد وصف الله هذه الليلة بأنها مباركة، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان، الآية:٣،٢.
كما وصفها أيضا بأنها ليلة ذات قدر ومكانة، وخصها بسورة باسمها، ألا وهي سورة ( القدر)، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}.
وهذه الليلة هي سيدة الليالي في كل زمان ومكان، لأن صيام نهارها وقيام ليلها خير عند الله من ألف شهر، أي ما يزيد عن ثلاثة وثمانين سنة، وربع السنة، جهادا في سبيل الله، وطاعة له، وما ذاك إلا مكرمة لمحمد- صلى الله عليه وسلم- في أمته بعدما رأى قصر أعمارها دون غيرها من الأمم، فخشي أن تأتي أعمال أمته قليلة لأعمارها القصيرة.
وهي ليلة تقام فيها احتفالية كبرى ليس لها نظير في الكون كله، حيث تحتفي السموات والأرض معا بنزول القرآن فيها، فتتنزل الملائكة من سماواتها ليكونوا مع أهل الأرض وبينهم، يقودهم(الروح) جبريل- عليه السلام- فيسلمون عليهم جميعا ويظلون مستمرين على هذه الحال من السلام والأمان حتى مطلع الفجر.
وكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جبريل عليه السلام احتفاء خاص بالقرآن الكريم في رمضان، فقد كانا يلتقيان على ما ئدة القرآن في كل ليلة من ليالي الشهر حيث يعاوده جبريل بالقرآن، جبريل يقرأ ورسول الله يسمع، والعكس رسول الله يقرأ وجبريل يسمع، وقد ورد خبر ذلك عن ابن عباس حيث ذكر أن رسول الله: " كانَ جبريلُ يلقاهُ في كلِّ ليلةٍ من شَهرِ رمضانَ فيدارسُهُ القرآنَ" رواه؛ البخاري ومسلم.
وفي السنة الأخيرة من حياته- صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل بالقرآن في رمضان مرتين، ففي الصحيحين، عن فاطمة- رضي الله عنها- وصلى الله وسلم على أبيها، قالت: "أسرَّ إلي -تعني أن أباها حدثها سراً فقال لها- إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب".
وقد كان صحابة رسول الله والسلف الصالح من الأمة إذا أقبل عليهم رمضان شمروا عن سواعد الجد، وانكبوا على مائدة القرآن يقرؤون، ويحفظون، ويتدبرون، ويتنافسون، حتى تواترت الأخبار بأن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- كان يختم القرآن كل يوم مرة، والأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتيْن، وفي غير رمضان في كل ست ليالٍ، وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتيْن، وكان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، وكذلك كان الشافعي في رمضان له ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزهريُّ إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويُقبِل على تلاوة القرآن من المصحف.
وإذا كان على المسلم في رمضان أن يحرص على قراءة القرآن الكريم وتدبره، وأن يجعل منه مائدته التي لا تغيب عن مجالسه لا في ليله ولا في نهاره، ليتغذى منها قلبه، وتسمو بها روحه، ويجني منها ثمار الخيرات والبركات التي تنفعه في دنياه ودينه وآخرته- فإن قراءة القرآن وحفظه وتدبره يجب أن لا تغيب عنه على مدار العام كله، لأنها عبادة لها أجرها العظيم، وفضلها الكبير، فعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم' : "مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتاب الله فَلَهُ حَسَنَة، والحَسَنَة بِعَشْرِ أمْثَالِها، لا أقول: ألم حَرفٌ، ولكِنْ: ألِفٌ حَرْفٌ، ولاَمٌ حَرْفٌ، ومِيمٌ حَرْفٌ". رواه الترمذي.
وقد كرم الله أهل القرآن، وأعلى من قدرهم في الدنيا، وفي الآخرة ويكفيهم شرفا وعزا وفخرا، أن يصطفيهم لنفسه من بين خلقه فيجعلهم هم أهله وخاصته، فقد قال- صلى الله عليه وسلم-" إنَّ للَّهِ أَهْلينَ منَ النَّاسِ قالوا: يا رسولَ اللَّهِ ، من هُم ؟ قالَ: هم أَهْلُ القرآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وخاصَّتُهُ" رواه ابن ماجه، عن أنس بن مالك.
ومن فضل القرآن على أهله أنه والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، قال- صلى الله عليه وسلم- " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان" رواه الترمذي عن أبي هريرة.
ومن فضل القرآن على عموم أهله عند تجمعهم لقراءته وتدارسه، أن تتنزل عليهم السكينة، وتتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، (أي: تحيط بهم) ، وأن يذكرهم الله فيمن عنده من أهل الملأ الأعلى، فقد روى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم، وأبو داود.
ونزول الملائكة إلى الأرض احتفاء بقراءة القرآن أمر معهود أشارت إليه بعض الأحاديث النبوية، فقد رُوي: أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ بيْنَما هو لَيْلَةً يَقْرَأُ في مِرْبَدِهِ (مرْبَطُ الخيل)، إذْ جَالَتْ فَرَسُهُ،( تحركت بقوة مع نفور) فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، قالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى [ابنه] فَقُمْتُ إلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، (جمع سراج) عَرَجَتْ في الجَوِّ حتَّى ما أَرَاهَا، قالَ: فَغَدَوْتُ علَى رَسولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بيْنَما أَنَا البَارِحَةَ مِن جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ في مِرْبَدِي، إذْ جَالَتْ فَرَسِي، فَقالَ رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: اقْرَأِ ابْنَ حُضَيْرٍ قالَ: فَقَرَأْتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اقْرَأِ ابْنَ حُضَيْرٍ قالَ: فَقَرَأْتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: تِلكَ المَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، ولو قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ ما تَسْتَتِرُ منهمْ" رواه البخاري ومسلم.
وفي الآخرة تقام لصاحب القرآن احتفالية لا شبيه لها بين أهل الدنيا، حيث يزينه الله على رؤوس الأشهاد بزينة لم ير مثلها بشر، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ ، فيقولُ القرآنُ : يارَبِّ حلّه ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ ، ثُم يقولُ : ياربِّ زِدْه ، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ ، ثُم يقولُ : ياربِّ ارْضَ عَنه ، فيَرضَى عنه ، فيُقالُ لهُ : اقْرأْ ، وارْقَ ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً"
رواه الترمذي وأحمد، عن أبي هريرة.
ولا يكتفى في هذا اليوم المشهود عند هذا التكريم والاحتفاء بصاحب القرآن، فإنه تقام احتفالية أخرى يكرم فيها والداه لأجله، فيلبسان من الزينة ما يتباهان بها على أهل هذا اليوم، حتى تأخذهما الدهشة، ويستولي عليهما العجب من جمال ما يلبسان، فيتساءلان: بما كسينا هذا؟ فيأتيهما الجواب من قبل الله: لأنكما حرصتما على يأخذ ولدكما القرآن، قال صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن وتعلَّم وعمل به أُلبِس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويكسى والداه حلتين [ثوبين] لا تُقَوَّم لهما الدنيا، فيقولان: بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن". رواه الحاكم عن أبي هريرة.
وقد جمع العلماء من عدد من الأحاديث والآثار جملة من الفضائل العظيمة التي تمنح لصاحب القرآن، فيرفع الله بها قدره ويعلي شأنه بين العالمين، فقالوا: إن من مزايا حافظ القرآن في الدنيا والآخرة: "أنه يُقدَّم على غيره في الصلاة إماماً، وأنه يقدَّم على غيره في القبر في جهة القبلة، وأنه يقدّم في الإمارة والرئاسة إذا أطاق حملها، وأن منزلته عند آخر آية كان يحفظها، وأنه يكون مع الملائكة رفيقاً لهم في منازلهم، وأنه يُلبس تاج الكرامة وحلة الكرامة".
ومن أجل هذا التكريم العظيم لقارئ القرآن، ومتعلمه، ومعلمه، علينا أن نقبل على مائدته في رمضان، كما كان يقبل عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، لعل الله يتقبل منا ويجزينا عليه خير الجزاء