أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)، وفي رواية لمسلم:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها:
أولاً:إحياء الليل: فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة، وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر، واختلفوا في تفسيره فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، كما يقال فلان يشد وسطه ويسعى في كذا وهذا فيه نظر فإنها قالت: جد وشد المئزر فعطفت شد المئزر على جده، والصحيح: أن المراد: اعتزاله النساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون.(لطائف المعارف صـ268).
وهناك أعمال كثيرة يستحب للمسلم القيام بها والمحافظة عليها في هذه الأيام والليالي المباركة ومنها:
1- الاعتكاف:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان"(رواه البخاري). فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة ؛ لأنه مما واظب عليه النبي عليه السلام فينبغي للمؤمنين الاقتداء في ذلك بنبيهم ، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبي عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام في العشر الأواخر حتى قبضه الله.(شرح صحيح البخاري، لابن بطال 4/181).
وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعاً لأشغاله، وتفريغا للياليه، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيراً يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم. فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.(لطائف المعارف صـ273).
2- أن في هذه الأيام ليلة القدر:
قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(القدر: 1-3)، وسميت بذلك لأن اللّه تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة ؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وقيل: إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة، وقيل: سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً ، وثواباً جزيلاً.(تفسير القرطبي 20/130).
3- الدعاء:
من الأعمال المستحبة في هذه الليالي العشر الإكثار من الدعاء، وقد بيّن لنا المولى سبحانه أنه قريب من عباده يستجيب لهم إذا دعوه فقال جل وعلا:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186)، وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر:60)، وأخرج الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل العبادة الدعاء".
فيستحب للإنسان الإكثار من الدعاء في هذه الأيام والليالي المباركة فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"(رواه الترمذي)، وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً ولا حالاً ولا مقالاً فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر.(لطائف المعارف صـ228).
كانت هذه بعض الأعمال الصالحة التي يستحب فعلها في هذه الأيام والليالي العشر المباركة وبيان فضلها، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال اللهم آمين.
**عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن
بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالديدامون شرقية**