الترنيمات تتصاعد من داخل كنيسة "سانت نيقولا" في ليلة الميلاد تٌعلن: " المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة"
الكهان يتلون الصلوات في خشوع وابتهال بينما طنين الأجراس لا يتوقف والرجال والنساء قد اكتسوا بأوشحة الثراء . كان ترتيب مجلسهم ليس بحسب قربهم من المسيح لكن بحسب ثرائهم ووجاهتهم وبحسب الطبقة التي ينتمون إليها ، فهؤلاء نبلاء وهؤلاء أقطاعيين وهؤلاء سياسيين وربما من أجل ذلك هم لا يطيقون العهد الجديد ويخبؤه عن أعين الناس .
وبينما كان الأمر كذلك داخل الكنيسة كان المشهد خارجها مغايرٌ تمامًا ، فقد كان هناك شعب يحب المسيح لكنه منبوذ ومحتقر وياله من تناقض أن يكون مصير الحب الصادق هو الاحتقار سأصف لكم ثلاثة مشاهد تعكس البشاعة خارج حدود الكهان .
أولها:امرأة عجوز تسكن حيز بمقدار جسدها الهزيل ترتكن إلى جدار الكنيسة تلتحف قطعة من أطمار بالية ، ليس لها من مظاهر الحياة سوى قلب يدق فى مرارة وأنفاس متقطعة من شهيق يتشبث بالحياة وزفير ينبئنا باقتراب موعد الرحيل .
منذ سنين والسيدة على هذا النحو لا أحد يعلم من هى ومن أين أتت وماذا تُسمى ولم يروها إلا وهى تعطي من طعامها الذى لم يُعرف مصدره لقطط الطريق الضالة .
كانت الترانيم تتصاعد داخل الكنيسة بينما أنينها يصل إلى الله مفعمًا بصدق المحبة وفى تلك الأثناء كان آخر شهيق لها هنا فوق الأرض لتحل روحها هناك في رحابة السماء .
ثانيهما: على قارعة الطريق كان صبيًا يافعًا يُمسك بأطواق الياسمين يرجو المارة بأدب وخجل أن يبتاعوا منه الياسمين .
كانت أمه قد اقترضت من المرابي "اسحق" الذى يحجز مقعده الدائم فى أول صفوف المصليين وعندما عجزت عند سداد الدين سخرها للعمل عنده دون أجر تجمع الكَرْم من حقوله الشاسعة .
أُصيبت بالدرن فطردها من العمل خوفًا على أعنابه لكنه مازال يُذكِّرها بالدين الذى في عنقها . حمل طفلها أطواق الياسمين يبتغى تحرير عنق أمه من دينها
لكن الله قبل روحها وهى تناجيه أن يسدد دينها وأن يرحم طفلها .
ثالثها: فوق الربوة شاهدت تابوت خشبى يحمله شابين بائسين ينحرفان به بعيدًا عن المقابر المشهودة بالصلبان وعند حفرة ضيقة وضعا التابوت ثم رسما الصليب و عادا ادراجهما بانكسار .
رفض الكهان أن يوارى جسدها بصلاة أو بترنيم .
كانت هذه جنازة "ماريا" تلك التي كانت جميلة وفاتنة حملها البؤس على أن ترتدي ثوب الخطيئة .
عند أعتاب حجرتها كان هؤلاء الذين يحجزون الصفوف الأولى في بيت الله يرتدون أثوابهم الحقيقية ويكشفون عن وجوههم دون أقنعة تاركين التمسح بالقداسة إلى التلذذ بجسد كلما عزم صاحبه أن يترك الخطيئة دفعوه إليها دفعاً .
هرعت ماريا كثيرًا إلى أبواب الكنسية تدق أبوابها تتذلل إلى كُهَّانها لكى تعترف بخطيتها دون جدوى .
كانوا يلقونها بعيدًا عن أسوارها المقدسة حتى لا تتدنس .
لم تجد من تزرف الدموع فوق قدميه كما صنعت المرأة التى غسلت بالدموع خطاياها عند أقدام المسيح ولم تجد من يقول للذين نعتوها زانية وألقوا أبواب توبتها بالحجارة: "من منكم بلا خطية فايرجمها بحجر"
لقد أُوصدوا الأبواب أمامها بينما الذين يرددون كلماته في صلاتهم يقول لمن أرادت أن تتطهر من خطيتها: "أما أدانك أحد" وعندما قالت: "لا يا سيد" قال لها: "ولا أنا أدينك، اذهبي بسلام ولا تخطئي"
لم تجد ماريا من يقول لها هذا لكنها ذات ليلة مقمرة ناجت الله أن يلحق روحها إليه طاهرة مطمئنة فعادت إليه كما طلبت .
هؤلاء الذين لا يمكلون ..
هؤلاء الذين يعودون إلى الله مُشتهى الأنفس .. إلى ملكوته وقد كانوا بيننا بائسين تعساء ..
هؤلاء الذين تتشح أنفسهم بأثواب النور التى كنَّا نراها بالية .
هؤلاء الذين يضعون فوق رؤوسهم تيجان الرياحين بينما كنَّا نراها أزهارًا من شوك ..
هؤلاء الذين يعودون إلى الله برجفة قلوبهم نابضة متقدة كضمير الرسل طاهرة مثل أعين اغتسلت بأدمع توبة فوق أقدام ابن الإنسان..!
من #رجفة_قلب