السبت 29 يونيو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي


 الحب لم تُنكرْه ديانةٌ ولا شريعة؛ فقلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء، ومبدؤه ميلٌ نفسانيٌّ ينشأ بسبب استحسان الصورة بدليل قول الحق: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ"آل عمران/14، أي: زُيِّنت المُشْتَهياتُ للناس فأحبوها، ثم إنه ينموا بمشاكلة بين المتحابين والاتفاق في صفات، إذ " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف " البخاري/3158 وبدون المشاكلة والاتفاق في الصفات لا يتجاوز الصورة، فلا يكون حبا بل شهوةٌ منقضيةٌ بانقضاء علتها.
  وبقدر الاتفاق في الصفات تكون قوة الحب، حتى كأنه اتصال بين جزئيْ نفس واحدة قسمت شقين، لذلك يتجاوز القرآن في بيان علة التعلق استحسانَ الصورة إلى ذلك الاتصال عندما يقول :"هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ "الأعراف/189 فيجعل مرجعَ سكون الزوج إلى زوجه أنها جُعِلت من نفسِه؛ فتجد الرجل يميلُ إلى زوجه وهو يعلم فضل غيرها عليها في الصورة، إلا أنه لا يجد لقبه عنها مُنْصَرَفا لأنها لم تعد شِقَّ نفسِه فحسب بل باتت نفسُه، فحبهما حبٌّ قهريٌّ، وهو معنى يؤازرُه قولُ الحق :" فإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ "النور/61 فكأن أهلَ الرجلِ نفسُه.
 وقد يتزوج الرجلُ المرأة ولا يرى فيها ما يوجب تعلُّقَه بها أو العكس بأن لا تجد الزوجة في زوجها ما يوجب ميلُها إليه، فلا يُكَلَّفُ أحدُهما بما ليس في وُسْعِه من الحبِّ القهْرِيِّ.
  لكن يبقى لهما مع ذلك من حظ الحب: الميلُ الاختياريِّ الذي ينمو بحسن العشرة بينهما، فالزوجة تَرُوضُ نفسَها على حسن التبعل لزوجها وتَحَمُّلِ ما لا يلائمها من طبعِ أو خُلُقِ أو صورة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، و يَرُوضُ الزوجُ نفسَه على الإحسان لزوجه، ويتحمُّل منها ما لا يلائمُه من خُلُقِ أو طبع أوصورة، حتّى يحصل بينهما من الإِلْفِ والحُنُوّ اختياراً بحسن العشرة ما يقوم مقام الميْل القهريِّ ويربوا عليه؛ فإن الميلَ إلى الخُلقِ الحسنِ والفعل الطيب مَحبَّةٌ أشدُّ من محبةِ الصورة والمحاسن الظاهرة.
  ولعل هذا يفسر جواب المرأة البدوية التي كانت من أحسن النساء وجها ولها زوج قبيح عندما سألها الأصمعيُّ عن سبب رضاها أن تكون تحته ؟ فقالت: لعلَّه أحسنَ فيما بينَه وبين ربِّه فجعلني ثوابَه، ولعلي أسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عذابي أفلا أرضى بما رضيَ الله به". 
  وللناس مُشْتَهَيَاتٌ يتعلقون بها ويميلون إليها، سماها القرآن لشدة حبِّهم لها: شهوات، قال تعالى:" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ "آل عمران/14 
 كما أن للمحبة ضروبا فترى محبوبا لفضلِ علمهِ أو قرابتهِ أو إحسانِه، أولطمعٍ في جاهِه، أو لبلوغٍ لذة وقضاء وطرٍ، إلا أن كل ذلك يظل حبًّا.
  أما الحب المتجذر فهو حب المؤمن لله؛ لأنه حب لذات الله؛ ولكونِ الله أهلاً للحب الذي لا يدانيه حب، قال تعالى:" وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّه " أي: يتخذون أندادا يحبونهم حبا مساويا لحبهم لله، أو: حبا مساويا لحب المؤمنين لله،لأنه إذا قيل: اتخذه دون الله فالمعنى: أفرده بالحب وأعرض عن الله، وإذا قيل: اتخذه من دون الله فالمعنى: أنه أشركه في الحب مع الله فيستلزم الإعراض عن الله في أوقات انشغاله بحب الأنداد .
 فالتسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خُطًورِها بالبال والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وتجذُّرِها وعدمِ تزلزلها . 
  فإن أحببت زوجَك لحسنها دون الله عققت والديك، وإن أحببت والديك دون الله لإحسانِهما إليك قصرت مع زوجك، وإن أحببت مالك دون الله بخلت به ومنعت الحقوق .
  لكن إن أحببت الله وكان حبُّك له أشدَّ، أحبَّكَ الله، وأحبك الكونُ كلُّه، بكل ما فيه ومن فيه واستقامت لك الحياة.
 اللهم ارزقنا حبك وحب رسولك وحب من يحبك واجعل اللهم حبك أحب إلينا إلينا من كل ما نحب، واحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء .

تم نسخ الرابط