السبت 27 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

"الأمانيُّ بضاعة الحمقى" حكمة تُجسِّدُها قصةُ رجل كان له عسلٌ وسمن في جرة، فاستغرق يوما في الأماني قائلا: أبيعُ الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمسة أعنُز، فأُوَلِّدُهُنَّ في كل سنة مرتين، حتى يبلغ النتاج مائتين، فأشتري بكل أربعة أعنز بقرة، وأصيب بذرا فأزرع، وينمِي المال في يديَّ، فأتخذَ المساكن والأهل ، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت رأسه بعصاي هكذا.
 فرفع العصا التي في يده مصورا الضرب، فأصاب الجرة فانكسرت، وانصبَّ العسل والسمن على رأسه.(عيون الأخبار:1/378)
فلا هو استفاد بعسله وسمنه ولا حققت له الأحلام شيئا.
إن جرة العسل تلك هي واقعك الذي تعيش فيه، هي رأس مالك، هي مواهبك التي منَّ الله بها عليك من الذكاء، والصحة، وسلامة الأعضاء، والفراغ، فاحمد الله عليها، وأحسن استثمارها يباركْ لك الله فيها.
 أما أن ترتمي في أحضان البطالة ثم تستغرقُ في الأحلامِ مستمتعا بما بنيت من قصور، وما جمعت من أموال، وما اقتنيت من سيارات، وما تزوجت من نساء، دون أن تحرك ساكنا، فأنت إنسان أحمق؛ لأنك تضيِّعُ بذلك شبابك، ووقتك، وصحتك، أنت تُهدر فرصتك، وتكسر جرة عسلك وسمنك التي لا تملك سواها .
ولو مكثت مائة عام تحلم بالأمنيات دون خطة، ودون جهد وعزيمة وإصرار وصبر على التنفيذ فلن تحقق شيئا لأنها الأمانيُّ الكاذبةٌ، لا ثمرة لها سوى التخلف والخيبة. 
 عبدالرحمن بن عوف الصاحبي الجليل لما قدم المدينةَ مهاجرا، لم يكن لديه شيء، فعرض عليه سعدُ بنُ الربيع الأنصاريِّ نصفَ ماله بعدما آخى بينهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأبى قائلا له: بارك الله لك في مالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضَل جُبْناً وسمنا، فأتى به أهل منزله. البخاري/2049
 لقد أبت عليه نفسه أن يركَن إلى الدعة، وآثر استثمار مواهبه فمن الله عليه.
 لذا يُثني الحق ويمتن عندما يخبرنا عن داود ـ عليه السلام ـ بقوله:"وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ " فكان يعمل حدادا، ويأكل من عمل يده، وكذلك أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ فنوح كان نجارا، وإدريس خياطا، وإلياس نساجا، وموسى راعيا للغنم ، وكذلك كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .
هذا يعني أن المرء لم يخلق ليرتمي في أحضان البطالة مستغرقا في فانتازيا الأحلام مشخصا خيالات لن توجد ومتمنيا أوهاما لن تتحقق، ثم يصبح وقد تعوَّد الاستمتاع بفتاة لم يتزوجْها، واعتاد ركوب سيارة لم يملكْها، وأحب الجلوس في حدائقَ لم يغرسْها، فيُفتَنُ بذلك، ويسعى للاستيلاء عليه في أرض الواقع دون وجه حق .
هذا أمر نهى القرآن عنه موجها إلى الاشتغال بالممكن فيقول:"وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ"النساء/32
 فلا ينبغي للإنسان أن يستغرق في الأحلام متمنيا لنفسه ما فضل الله به الأنثى على الذكر، أو الذكر على الأنثى، أو متمنيا عودة الشباب، أو ما فضل به آحاد الناس على بعض مما لا يَقْدِرُعلى تحصيله إلا بإيذاء الخلق ومعصية الحق ، والاشتغال بدلا من ذلك بطلب الممكنِ مرجُوِّ الحصولِ من الله مع الاجتهاد وكثرة العمل .
ولا بأس أن تتمنى وتحلُم، لكن بما يمكنك تحقيقه بالسعي والجد والاجتهاد، ويكفيك الاستغراق فيه للحظات معدودة تكون دافعا لك إلى النجاح فيما تصبو إليه.
 واحمد الله على جرة عسلك وحافظ عليها؛ فهي رأس مالك .
 اللهم افتح لنا من أبواب جودك وكرمك ما تغنينا به عن سؤال غيرك، وأعنا على ذكرك وحسن عبادتك، واحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء.
[email protected]

تم نسخ الرابط