قلت للسيدة المتوشحة بالأسود بصوت يتهدج:
هُزي إليكِ بجذع الحزن .
قالت وقد ارتسمت على وجهها كل مشاعر الدنيا:
وهل للأحزان جذوع؟
قلت: نعم إن للأحزان جذوع تتساقط بهزها رطبا .
قالت: وما هى رطب الأحزان؟
قلت: النسيان ... !
إن النسيان هو رطب الأحزان .. !
=====
لا أذكر أنني تمنيت أن أُتقن شيئاً من الفنون بقدر ما تمنيت أن أتقن فن الرسم .
لقد ارتضيت محاولات الرسم بالكلمات لكن وجه المرأة الحزين قد أيقظ فى نفسي تلك الرغبة من أعمق مكان باللاشعور وقد حسبت أنها تلاشت.
أذكر أنني وقفت مرات ومرات مشدوهاً أمام لوحات عصر النهضة التي تملئ جنبات المتحف القومى بلندن ومتحف اللوفر بباريس وغيرها من الأماكن التى تحفظ أسرار الحضارة .
كنت أتعجب لا أكاد أصدق أن يد فنان قد رسمت هذا .
إن الملامح تنطق بحديث يتراوح بين الأمس واليوم والألوان بذات الزهو الذي أُلقيت عليه هنا فوق لوحة خشبية تجسد فيها معناً خالداً يصف الإنسان في لحظة من الزمن تأبى أن تحيلها إلى لحظة عابرة .
من أجل ذلك تتسمر أعين الناس ومن قبلها سرائرهم أمام لحظة إبداع لايزال وهجها متقداً.
هنا أمام وجه المرأة تمنيت لو أنني اختلست بصيصاً من عبقرية دافنشى عندما تهيئ منذ خمسة قرون لرسم الجيوكاندا .
لم يكن بمقدوري أن أرسم وجه المرأة بريشة وزيت وإنما حاولت أن أرسمه بحروف وكلمات وأنا أبحث عن سؤال يتردد في نفسى: أيهما أكثر تعبيراً عن الملامح الصورة أم الكلمات؟
ولم أجد إجابة لأن السؤال نفسه لم ينتظر تلك الإجابة .
ما أتعس أن يظل سؤلاً هكذا بلا جواب ... !جلست المرأة أمامي ... !
أتذكر الوقت جيداً .. ساعتان كانتا قد تجاوزتا الظهيرة وبعد أن هدأ صخب الضجيج المنبعث من الطرقة التي تطل على مكاتب وكلاء النيابة .
لم يكن أمام مكتبي سوى مقعد واحد تتقدمه منضدة صغيرة مصنوعة من الخشب .
هناك مساحة جيدة بينهما تتيح جلسة مريحة لمن يدلي بأقواله .
قبل موعد التحقيق قرأت الأوراق جيداً وكانت من تلك الأوراق القليلة فى عددها ، العظيمة في أثرها .
هناك أوراقاً لأ يمكن للأبصار وحدها أن تدرك ما طويته .
هناك أوراقاً جدير بها أن تُقرأ بالضمير قبل الإبصار .. بالوجدان قبل العقول .. !
إنها تُملى علينا أن نجلس في محرابها نتلوها بخشوع عابد وببصيرة حكيم .
إنها قصة فتاة لم تتجاوز منتصف العقد الثانى من العمر إلا بقليل .
هكذا تُلقى حتفها بنفسها .
لقد تجرعت جرعة من السم كانت كفيلة بأن تسلم الروح بعد محاولة إسعافها لمدة ساعات .
هذه قصة حزينة بلا شك لكن القصة تأخذ أبعادها حتى تبلغ المأساة ، عندما يأتى تقرير الطب الشرعي ليقول لنا أن الفتاة كانت تحمل جنيناً عمره ثلاثة أشهر بين رحمها .
هنا نصير أمام مأساة حقيقية قد يكون من الإنصاف ألا نحاول وصفها وإن كان لابد فيجب أن ندرك أن الخجل لن يتركنا نلقي بالكلمات هكذا دون أن يعترينا .
كيف أسمع شهادة أم فى واقعة انتحار ابنتها ، تلك التى كانت فى ريعان شبابها ...!
ثم كيف يصير الأمر عندما تعلم الأم أن ابنتها لم تمت وحدها بل قُضى معها جنيناً بث الله فيه الروح وصار مضغة بين أحشائها ... !
كيف نخبر الأم أن ابنتها العذراء قد ماتت وفي أحشائها جنيناً .. !
ألم أقل لكم قد يكون من الإنصاف ألا ننزلق إلى وصفٍ لن يفي مهما حاول أن يرتدى ثوب الإكتمال بجزيئ من الواقع ... !
لقد قفز إلى ذهني هنا عبارة قرأتها من قصة "الترحيلة" للأديب الفذ
أمين يوسف غراب . يقول المقطع:
فارتسم شئ من الحزن على وجه الرجل ةقال وهو ينظر في الورقة التي في يده:
– أسباب الوفاة؟
ثم استطرد يقرأ:
– اجهاض أدى إلى تهتك في الرحم ونزيف حاد ونتجت عنه الوفاة .
فلم أفهم شيئا مما قال ، ولذلك قلت:
يعنى إيه؟
فقاب وهو يشيح بوجهه عنى وينصرف إلى امرأة أخرى كانت تبكي:
– بقى أختك كانت حبلى !
فشهقت ودارت بي الأرض ، ولم أعد أسمع شيئا ولا حتى صوت الخفير وهو يترك يدي ويأذن لي بالانصراف .
ووجدت نفسي في العراء أذير وحدي ، وظللت أسير وظلت الدموع تروح وتجئ في عيني ، وعدة أشباح تتراقص أمامي"
لقد ماتت وردة هنا في "الترحيلة" كبداً .. عذراء في أحشائها جنين وما أشبه الحقيقة بالأدب .. أو ما أشبه الأدب بالحقيقة !
كانت جلسة التحقيق هذه من المرات النادرة التى أتهيب فيها مقابلة شاهد في القضية.
شاهد على ماذا؟!
على المأساة ..؟
على الحزن ..؟
على الغموض ..؟
أم على هذا القاتل المجهول..؟
لقد كان هذا السر الذي يحيط بجنبات الأوراق أثقل ما حملته يدى.
وتهيأت لمقابلة المرأة .
إن وصف الأمومة وحده كفيل بأن يلقي الهيبة داخل نفسي .
هذا عن وصف الأمومة ، فكيف عندما تكون الأم ثَكلى؟!
هنا تستحيل الهيبة إلى رهبة ثم لا تتوانى ضربات القلب إلا أن تستشعر تلك الهيبة فتعلن بدقاتها المتلاحقة وكأنها قرع طبول يأذن بحرب أنها هي الأخرى على موعد مع الرهبة .. موعد مع السيدة الثكلى .
موعد مع رطب الأحزان .. !
دلفت المرأة متوشحة بالأسود بخطوات ثقيلة لا تكاد قدميها تقدر على حملها لكنها بدت رغم ذلك متماسكة وكأن شذا من صبر أيوب قد حلَّ بها فألقى سكينة عليها أو أن مس من قميص يوسف قد ربت سريرتها فألقى عليها سكينة .. ! وفي ظل تلك الأجواء يكتمل المشهد الحزين بصدى صوت يونس في بطن الحوت يردد لا إله أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ... !
هكذا بدت لى السيدة الثكلى .
ملامح امرأة أكسبتها صفة الأمومة منذ أول نقش بجدران معبد .
لا سمراء ولا بيضاء . لون بشرتها خليط بين وهج شمس صيف وحزن شمس خريف .
ملامح تغريك ألف مرة على أن ترسمها رغم الحزن الذي سكنها .
هي انموذج لمن أراد أن يتعرف على فن الرسم .
جبين عريض كأنه خارطة فرعونية . عينان بازغتان بغير خوف ولا انكسار ، تستطيع أن تدرك ما تخفيه مقلتيها من عبرات تجمدت .
خدين بارزين في تناسق لا تجد مشقة أبداً دون أن تلقي ظلالهما بقلم رصاص فوق قصاصة ورقة بيضاء فتخرج لك رسماً دون أن يسبق لك أن تكون قد رسمت .
شفتان متناسقتين تتهيأن لأن تسحرك عندما تنساب الكلمات خلالهما في الصوت الرخيم .
الذقن أكاد أجزم أننى رأيته منقوش بالكرنك ذات يوم .
رائحة الخبز لا أعلم كيف عبقت أجواء غرفة مكتبي عندما جلست السيدة أمامي .
رائحة معتقة بسنايل قمح قد ادخرها يوسف بمخازن مصر من أجل الأيام العجاف .
وخرجت الكلمات هادئة محتسبة من أحشاء أم ثكلى وتهدج صوتي وقاومت بكل ما أوتيت من قوة عبرات كان تلح لأن تنطلق كفيضان نهر وقفزت إلى مخيلتي أيضاً كلمات أديبنا "يحى حقى" فى وصف امرأة قد خضعت في أوائل القرن العشرين لجراحة دون مخدر عندما قال:
" هى لا تصرخ أو تتأوه ، إنما تتلاحق أنفاسها كأنها تلهث من كرب عظيم . كنت أظن من قبل أن جمال الوجه لا ينطق إلا فى حالة الصحة والنعيم والإشراق وأن الجمال والرضا أو البؤس أو الكمد ضدان لا يجتمعان . فما بال هذا الوجه الذى تجمَّعت عليه كل الأدواء ... ما باله قد اكتسى بصفاء التحف المرمرية فى قبور الفراعنة.."
هنا وددت لو أنني أستطعت أن أمد يدي لأصافح هذا الوجه حتى أتيقن أنه وجهاً حقيقياً ، لا أسطورة من أساطير الإغريق وأن أُربت على هذا القلب كي أكتشف بأناملي خارطة العالم الحقيقية .
كنت أود لو أنني مسست هذا الجبين حتى تتعطر نفسى برحيق الصبر .
أهو الجمال الذى قال عنه توفيق الحكيم فى يومياته: "إن للجمال لهيبة"
ووجدتني أقول للمرأة بعدما أبدت أقوالها التي لم تزح فيها ولو بمثقال ذرة من ستار السر الأعظم .
– قلت لها بصوت يتهدج:
هُزِ إليكِ بجذع الحزن .
– قالت وقد ارتسمت على وجهها كل مشاعر الدنيا الدنيا:
وهل للأحزان جذوع؟
– قلت: نعم إن للأحزان جذوع تتساقط بهزها رطبا .
– قالت: وما هى رطب الأحزان؟
– قلت: النسيان ... !
إن النسيان هو رطب الأحزان .. !
حُفظت القضية كواقعة انتحار .
لم يكن قد ظهر في هذا الوقت إمكانية تحليل البصمة الوراثية .
لم يُكلف الطبيب الشرعي بأخذ عينة من الخلايا .
ولا هو أخذ عينة من الجنين للمضاهاه مع عينة دم لمن يشتبه أنه أباه ... !
كان العلم بخيلاً علينا أو أننا نحن الذين كنا البخلاء للقائه .
ذهبت "ندى" إلى ربها بسرها وبسر جنينها.
كما ذهبت "وردة"
ذهبت إلى موضع الرحمة المطلق الذى وسع كل شئ .
ذهبت حيث لا سر عندما تنطق كل الجوارح تشهد بالحقيقة علينا .
وأما الأم فلم تبرح مخيلتي حتى شرعت في كتابة تلك الكلمات وقد تهدج صوتي ذات التهدج وباتت حروفي خجلى ، ذاك الخجل الذي اعتراني عندما جرأت على وصف المشهد الحزين عند المرة الأولى .
لكن عَبراتى التي تجمدت في مقلتى قد استحالت إلى سيل من الدمع قد تأخر فيضانه أكثر من عقدين من الزمن ... !