يوميات نائب في المدينة
العدالة ضمير وبصيرة وعقيدة يعلوها تاج من الرحمة
التاسعة صباحا بغرفة المداولة..!
كنت أذهب إلى محكمة الجنايات مبكراً وقبل أن يحضر القضاة بوقت كاف.
ارتدى بدلة غامقة اللون غالباً اتخير اللون الكحلى الذى أفضله كثيراً وبيدى وشاح النيابة العامة بلونيه الأحمر والأخضر.
غرفة المداولة كانت تقع بجانب الغرفة التى يُحتجز بها المتهمين الذين ينتظرون المحاكمة.
كنت أستمع لنداءات كل منهم لذويه.. هذا يخاطب زوجته وهذا يناجى أمه وهذا يسأل عن نجله وهذا يسأل عن مولوده وآخر يسأل عن محاميه وهذا يسأل الدعاء وهذا يسأل عن الدين الذى يجب أن يُوفّى.
عالم آخر كان يتهادى إلى مسامعى دون أن أسترق السمع.
تلك المناجاة التى تصعد من صدور هؤلاء الذين ينتظرون مصائرهم كانت تذكرنى دائما بأعظم ما قيل عن العدالة:
إن الخطأ فى العفو خير من الخطأ فى العقاب
وأن خيرا للعدالة أن يبرأ ألف مجرم من أن يُدان برئ واحد ... !
ثم نأتى إلى الفضيلة التى قال فيها الأستاذ العقاد أنها وحى نفس وحساب ضمير.
ما زلت أذكر هذا الذى عاصرته وأنا وكيل للنيابة حتى إذا صرت قاضياً بذات المحكمة ولا تزال غرفة المداولة على عهدها القديم وكانت المناجاة لا تزال تتصاعد وكأنها تكملة لأحاديث الأمس التى مضى عليها عشرون عاماً ولا أزال أصغى إليها كما كان فى وقت مضى.
هى ذات المناجاة لم يختلف فيها شئ إلا شخوص أصحابها وربما نبرات أصواتهم الحزينة، فقد تغيرت بعض الشئ.
ربما أصابها بعض من الجفوة والغلظة لكن لكلمة واحدة ظلت كما هى لم تتغير حين ينطق السجين لفظ الأم.
إن هناك أسراراً من الشجن تتغلف بها حشرجة الصوت عندما ننطق لفظ الأم.
لقد تيقنت أن العدالة ليست مجرد سطور تُلقى فوق أسطر تحتويها عدة صفحات أو مجرد أسباب حكم تستجمع شرائطها أو منطوق يُتلى فى جلسة علنية ثم يصير موضع تنفيذ فى لمح البصر.
إن العدالة قبل كل شئ ضمير وبصيرة وعقيدة يعلوها تاج من الرحمة.