الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

صدر يوم الاثنين (٢٠ من مايو ٢٠٢٤) بيان من ممثل الادعاء أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن تقديمه طلبًا لاستصدار قرارات من المحكمة بتوقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) ووزير دفاعه (يوآف جالانت)، وهنا لابد من تجلية مجموعة من الحقائق المهمة اللازمة لفهم الموضوع، وسأردفها باستشراف لآفاق الحلول والتحركات التي قد تتحقق أو لا تتحقق!

أولاً: أن الطلب المقدم بشأن المسئولين الاثنين الإسرائيليين مسبب باتهامات من بينها القتل والإصابة والتجويع الجماعي وقطع مياه الشرب وإمدادات الكهرباء (المتدفقة من إسرائيل إلى غزة) وإغلاق المعابر، وغير ذلك.

ثانيًا: أن الطلب يشمل أيضًا قيادات حمساوية هي يحيى السنوار (قائد حركة حماس في غزة)، ومحمد ضيف (قائد كتائب القسام)، وإسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي لحماس) لاتهامات تتعلق بالإبادة والقتل والاغتصاب والاختطاف وغيرها في عملية السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.

ثالثًا: إسرائيل ليست من الدول الموقعة على "نظام روما" الذي يعد المرتكز القانوني لابتناء المحكمة من الأصل، ما يغل يد المحكمة عن إسرائيل لأن عدم التوقيع ينفي وجود ولاية قضائية للمحكمة على إسرائيل.

رابعًا: انضمت فلسطين (التي ذكرها ممثل الادعاء لدى المحكمة في بيانه باسم "دولة فلسطين") إلى نظام روما في ٢٠١٥، ومن هنا يتجلى المدخل الأهم لمد سلطان المحكمة على الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المشمولة بولاية المحكمة.

خامسًا: يظل الأداء القانوني الدولي رهنًا بالإرادة الدولية لإنفاذ القانون والترفع عن ازدواجية المعايير... ومع انتفاء ذلك يظل النقاش دائرًا حائرًا بين "قوة القانون" و"قانون القوة".

سادسًا: هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المحكمة وقضاتها، ومارست أوجه التعنت ضدها وضدهم منذ سنوات منعًا لإقدام المحكمة على مقاضاة مسئولين (عسكريين) أمريكيين بسبب جرائم ارتكبوها خارج الولايات المتحدة.

سابعًا: الولايات المتحدة ليست من الدول الموقعة (١٢٤ دولة) على النظام الأساسي للمحكمة، لكنها تجيد التلاعب بها وتوجيهها ضد خصومها السياسيين (مثل عمر البشير، وفلاديمير بوتن).

ثامنًا: لا يمكن اغتفار تأخر المحكمة في الوصول إلى هذه النتيجة بعد كل هذه المدة، فالعدالة المتأخرة مظالم ناجزة.

تاسعًا: هذا التحرك الذي كان يُظَن مستحيلا ضد إسرائيل أمام القانون الدولي يبقي على الأمل حيًا في تحقيق العدالة أو جانب منها – ولو بعد حين؛ فإرساء السابقة القانونية له جلاله وتاريخيته.

عاشرًا: بموجب أحكام المادة ٥٧ من نظام المحكمة، لا يصدر ممثل الادعاء (صاحب البيان موضوع التحليل) قرارات التوقيف؛ بل تصدرها الدائرة التمهيدية بالمحكمة.

حادي عشر: قرار المحكمة قد يكون مذكرة اعتقال (وحينها تلزم الدول الأعضاء كلها بالتعاون في تنفيذ القرار)، وقد يكون استدعاءً للمثول (فيحضر المتهم طواعيةً).

ثاني عشر: حال الاستدعاء تبدأ مرحلة "ما قبل المحاكمة" بعقد جلسة المثول الأولى أمام ثلاثة قضاة، وهي جلسة إجرائية؛ يليها إدلاء الادعاء والدفاع والممثل القانوني للضحايا بما لديهم، ثم يقرر القضاة (في غضون ٦٠ يومًا) مدى كفاية الأدلة لإحالة القضية إلى المحاكمة. وحينها ينظر القضاة في جميع الأدلة، ثم يصدرون حكمًا بالبراءة أو بالإدانة والسجن لمدة تصل إلى ٣٠ عاما، أو بالسجن مدى الحياة (في حالات استثنائية)، وللقضاة أن يأمروا بتعويضات للضحايا إذا ارتأوا وجاهةً قانونية لذلك.

ثالث عشر: الأحكام التي تصدرها المحكمة قابلة للاستئناف من أطراف الخصومة أمام المحكمة؛ وإذا قُبِل الاستئناف شُكِلت هيئة من خمسة قضاة ليس من بينهم أحد من الثلاثة أعضاء الهيئة الأولى.

رابع عشر: للسلطة الفلسطينية ممارسة سلطانها القانوني والقضائي في الأعمال المرتبكة على أراضيها، لكنها تفوض المحكمة الدولية في مباشرة تلك الاختصاصات.

خامس عشر: ليس للمحكمة شرطة أو قوات تمكنها من إنفاذ القرارات، وهذا أحد معطلات عمل المحكمة... لأنها تعتمد على الدول الأعضاء في تكامل الجهود لإنفاذ القانون وتحقيق العدالة... وأداء الدول يركن إلى مقتضيات السياسية، لا إلى مقتضى القانون.

سادس عشر: أصدرت المحكمة قرارات ضد أشخاص في قضايا سابقة، من بينهم ١٧ شخصًا ما زالوا طلقاء؛ علمًا بأن بعض الدول الموقعة على النظام الأساسي للمحكمة تتعلل بالحصانة الدبلوماسية للمطلوبين فلا تحقق مبدأ التعاون والتكامل المنصوص عليه في نظام المحكمة.

سابع عشر: الصحيح أن المادة رقم ٢٧ من النظام المذكور آنفًا تقرر أنه لا حصانة رسمية أو دبلوماسية أو بأية صفة أمام المحكمة – ولو كان المتهم رئيسًا أو قائد جيش. وقد أصدرت دائرة الاستئناف بالمحكمة نفسها في عام ٢٠١٩ قرارًا قطعت فيه بانتفاء الحصانة عن المطلوبين أمام المحاكم الدولية – وأخَصُّ ما يكون ذلك أمام الجنائية الدولية.

أما عن آفاق هذه الحقائق ومآلاتها فيمكن قول ما يلي من قبيل التحليل والاستشراف:

أولاً: حال إصدار قرارات التوقيف من المحكمة ضد نتنياهو وجالانت، من المتوقع أن تستجيب دول شتى للضغوط الأمريكية الإسرائيلية الأوروبية باستقبالهما وعدم التعاون مع المحكمة ضدهما.

ثانيًا: زيادة الشقاق بين مكونات الحكومة الإسرائيلية الحالية، وتوزيع الاتهامات وكيلها في ما بين أحزابها لجر أقدام أخرى إلى دائرة المحاكمة.

ثالثًا: اتجاه مؤسسات الدولة الإسرائيلية إلى إسباغ صفة رسمية -مدى الحياة- على كل مسئول إسرائيلي مطلوب تسويغًا لموقف الدول الموقعة المتعللة بالحصانة الدبلوماسية ومبدأ المعاملة بالمثل وغير ذلك (على الرغم من عدم الوجاهة القانونية لذلك كما سلف بيانه).

رابعًا: اضطرار الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا إلى "ملاطفة" الدول الراغبة عن التعاون مع المحكمة لمكافأتها على هذا الخروج على القانون.

خامسًا: اضطرار دول مضيفة لرموز حماس إلى التخلي عنهم خوفًا من الملاحقة الأمنية الإسرائيلية أو القضائية الدولية.

سادسًا: لجوء بعض الدول (مثل لبنان) إلى التوقيع على نظام روما طلبًا للحماية القانونية الدولية من البطش الإسرائيلي، وردعًا لإسرائيل عن مهاجمة لبنان هجومًا موسعًا.

سابعًا: زيادة الشقاق السياسي بين الفرقاء اللبنانيين باقتراح بعضهم توقيع لبنان على نظام روما ردعًا لحزب الله عن الإفراط في الاستتباع الإقليمي.

ثامنًا: بداية المراجعة الداخلية الصامتة لدى عدد من الفاعلين من غير الدول في المنطقة حال إنفاذ قرار المحكمة ضد قيادات حماس، وهو ما يعني بداية انفصام عُرى الاستتباع حال إنفاذ قرارات المحكمة أو توظيفها في التضييق على هؤلاء الفاعلين.

تاسعًا: احتمال (مستبعد) حال إصدار قرارات المحكمة ضد حماس... ومفاده السؤال التالي: هل تلجأ حماس إلى التوافق مع السلطة الفلسطينية في سبيل إنفاذ محاكمات (شكلية) داخلية مقابل ترتيبات سياسية، بدلاً من الخضوع لسلطان المحكمة الدولية؟

عاشرًا: احتمال (مستبعد) حال إصدار قرارات المحكمة ضد مسئولين إسرائيليين... ومفاده السؤال التالي: هل تلجأ إسرائيل إلى إقرار قوانين (داخليًا، وخارجيًا عبر دوائر المصالح والضغوط) لتحصين المسئولين الإسرائيليين من الملاحقة الدولية وفي دول أخرى؟ المعلوم أن الوثائق الدولية تسمو على الوثائق المحلية!

حادي عشر: في الأمم المتحدة لجنة مختصة بإنهاء الاستعمار... فهل تجتهد بعض دول العالم في إطار التطلع نحو نظام عالمي جديد لإقامة محكمة دولية / خاصة لحالات الاحتلال والتعويض عنه؟ ربما يكون هذا مسارًا يستحق التفكير ولو في إطار رمزي على أمل أن يصبح حقيقة.

ثاني عشر: هل تُسخن الجبهة اللبنانية الإسرائيلية في ظل انشغال الداعم الأكبر (إيران) لحزب الله بالشأن الداخلي بعد شغور مناصب مهمة في مفاصل الدولة وتغذية تفسيرات التآمر الداخلي والخارجي؟

ثالث عشر: هل تكون نهاية الحكومة الإسرائيلية الحالية بعد أقل من شهر (حسب المهلة المحددة لرئيسها من بعض مكونات ائتلافه) بكل ما يعنيه هذا من تخبط عسكري وسياسي؟ أم يؤدي شلل الحياة بالاحتجاجات في إسرائيل إلى التعجيل بذلك أو تحقيقه في موعده؟ أم تستمر حالة الهروب إلى الأمام بفتح جبهة جديدة للحرب تضمن استمرار الحكومة الإسرائيلية مع استغلال الوضع الإقليمي؟

رابع عشر: كل يبكي على ليلاه...! فهذه روسيا وغيرها يتحجج بازدواجية المعايير والهيمنة الأمريكية، وهذه دول عانت بطشَ بلدان أخرى سيسوغ لها اللجوء إلى المحكمة حال إدانة حماس (فاعل من غير الدول)... فتأمل معي إمكانية تكرار ذلك بين إريتريا وإثيوبيا، والصومال وإثيوبيا، والسودان وإثيوبيا، والدول التي لها مظالم من التدخل الأجنبي في ليبيا، وهلم جرا...

في ما سبق استعراض لحقائق واستشراف لمآلات، ويبقى المواطن البسيط في غزة رهين مغامرات وحسابات سياسية وإقليمية... ينهشه الجوع ويميته القصف، ولا يهنأ بالراحة في قبره... بل تدنسه أعمال التجريف وانهمار المقذوفات! فهل نشهد تغييرًا من الداخل في فلسطين وفي إسرائيل؟

تم نسخ الرابط