الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

مصر تغيرت وأم المصريين أيضا !

خلف الحدث

بهدف إحياء تراث وكتابات القامات الأدبية الكبيرة التي قدمت الكثير للكتابة والصحافة العربية في سلسلة مقالات نادرة نعيد نشر هذه المقالات للاستفادة منها وفي حلقة اليوم بقلم محمود السعدني في المقال المنشور بتاريخ 21 نوفمبر 2001 يقول ..
 

المثل الشعبي يقول: اللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع، بمعنى أنه اذا كان بيتك عاريا كالزنزانة والدنيا برد كأفغانستان وعيالك تنام على البلاط، وحرمك ولا مؤاخذة تعاني من الروماتيزم، وأم سيادتك بلا قافية تعوي طول الليل من الروماتويد، بينما سيادتك مشغول ومطهوم لفرش أرضية المسجد بالحصير أو بالسجاد، فما تفعله حرام ويغضب الله، لأنه في الدين الحنيف البيت أولى من الجامع، وأولادك قبل قبور الأولياء، وما ينطبق على الجوامع وأضرحة الأنبياء، يشمل أيضا فريضة الحج التي فرضها الله على عباده بشرط أن تكون تأديتها على من استطاع اليها سبيلا، بمعنى أن فريضة الحج يؤديها من كان يتمتع بصحة جيدة، ومن كانت ظروفه الاقتصادية جيدة أما المحتاج الغلبان الذي يدبر قوت يومه بالعافية فهو ليس مكلفا بأداء الحج، لأن حالته الاقتصادية السيئة تسقط عنه التكليف، وإن كان ثواب الحج يضاف الى حسناته على اعتبار أن الاعمال بالنيات، ومن نوى الحج فقد أدى الفريضة.أقول قولي هذا وأنا أقرأ أخبارا شتى هذه الأيام عن تنظيم رحلات الحج السياحي وعن الفوضى الضاربة في سوق العمرة، وعن تصريحات للدكتور وزير السياحة عن تشغيل غرفة العمليات المركزية لاستلام كشوف الحجاج، وأن الغرفة مفتوحة لتلقي الكشوف حتى يوم 15 ديسمبر. ألم يكن أجدر بالوزارة أن تضع قيودا على الحج السياحي السبهللي، بأن تمنع سفر أي حاج سبق له أداء الفريضة من قبل، على أساس أن الله سبحانه وتعالى فرضها على المسلم الميسور الحال مرة واحدة في حياته. وهذا الأمر الإلهي، لمن استطاع اليه سبيلا، ليست وقفا على الانسان الفرد، ولكنه يشمل أيضا المجتمعات كلها والحكومات أيضا، فعندما تكون الأزمة الاقتصادية تنشب أظافرها في المجتمع كله، فعلى الحكومة أن تتدخل لحماية العملة الصعبة التي يجري تبديدها في مثل هذه المواسم. خصوصا وأن هذه الأموال يجري انفاق أغلبها في شراء أدوية مقوية وسجاجيد ايرانية وأخرى من صنع بخارى وسمرقند ولا بأس من شراء هذه الأشياء وغيرها عندما تكون الأحوال حسنة واقتصادنا في حالة نغنغة، ولكن عندما تكون الحالة ناشفة ومرشحة لأحوال أنشف، فليس من المقبول أن يسعى عدة أفراد منا لحجز قصور لهم في الجنة، بينما يعيش أغلبنا على الحديدة. ولست أعرف مثلا أوقع من هذا المثل الشعبي، اللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع، أي جامع حتى ولو كان الجامع الأقصى! ولكن يبدو أن البيت عندنا لا يحتاج الى شيء، ولذلك فأغلب دخلنا ذاهب الى الحج والى العمرة. والغريب أن هذا كله يحدث تحت اشراف وتنظيم وزارة السياحة. أم المصريين من أقوال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ذات يوم، لقد نجحنا في ادارة قناة السويس، وفشلنا في ادارة القصر العيني، وهو قول حق لزعيم تاريخي نجح في ادارة أكبر شركة بحرية في العالم، وفشل في ادارة مستشفى في حي المنيرة، وهذا القول الحق ينطبق على مستشفى أم المصريين، أو كان ينطبق على مستشفى أم المصريين المستشفى التي تقع في حارة رابعة بالجيزة حتى عام مضى فقد كانت هذه المستشفى ينطبق عليها المثل الشعبي، الداخل مفقود والخارج مولود، كانت شيئا لا يمكن وصفه، الحوش تحول الى ورشة لاصلاح السيارات، وبعض الأركان المظلمة في المستشفى تحولت الى أوكار لمدمني المخدرات، وربع مساحة المستشفى تحول الى مخزن لصناديق الكرتون وللأجهزة الخربانة ولأشياء كثيرة لا قيمة لها ولا داعي لتخزينها، وكانت أسرة المستشفى من مخلفات الحرب العالمية الثانية، أما الأدوية فهي من المحرمات التي لا يسمح بوجودها في صيدلية المستشفى. منذ حوالي أربعين عاما تقريبا مات المكوجي عبدالعليم بكر بعد عملية جراحية لاستئصال المصران الأعور، لعدم وجود مضاد حيوي بالمستشفى. وسألت أحد الأطباء: ألا يوجد مضاد حيوي في المستشفى؟ قال لا يوجد أي شئ، حتى الشاش والقطن، ومنذ حوالي ثلاثين عاما كان المهرج أبو كيله يعمل ممرضا في المشرحة، وكان من عادته كل صباح الجلوس تحت الشمس مستندا على السور الخارجي للمستشفى يحتضن جثة عارية يقوم بخياطة جروحها المفتوحة بابرة خياطة وفتلة، وكانت النساء العاقرات يدفعن نقودا لأبو كيله ليسمح لهن بالقفز فوق الجثة لعل الله يرزقهن بالخلف. هكذا كان الحال في مستشفى أم المصريين حتى عام ألفين. وكان من السهل علينا أن نقول أن مصر نجحت في تسيير خط المترو تحت مياه النيل، ونجحت في ربط مصر كلها بشبكة طرق حديثة ونجحت في تغيير معالم الاسكندرية، ونجحت في انارة مصر كلها ريفها وحضرها وواحاتها في قلب الصحراء، ولكنها فشلت في تحسين الخدمة في مستشفى أم المصريين ولكنني في يوم الاثنين الماضي قمت بزيارة خاطفة للمستشفى الذي أحمل له ذكريات مؤلمة، فماذا رأيت؟ رأيت مستشفى من مستشفيات لندن حوش واسع نظيف وقسم للحوادث ليس موجودا مثله في مستشفى سانت ماري في حي بادنجتون، وغرفة عناية مركزة لا وجود لمثلها في رويال فري هوسبتال. ووراء هذا التغيير المذهل مدير يعشق مهنته وهو الدكتور محمد دعبس ووزير يريد أن يترك بصمته ونائب يريد خدمة أبناء دائرته، ولكن هذا كله يحتاج الى مجال أوسع. ولكنني أستطيع أن أقول في هذا الحيز أن مصر تغيرت لأن مستشفى أم المصريين تغيرت!

تم نسخ الرابط