ads
الجمعة 22 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي


«إذا كان الوطن يُساعد الإنسان على أن يكون نفسه، فإن اللاجئين لا يُشبهون أنفسهم، يعيش اللاجئون أزمنة جديدة، ويستقرون في أمكنة جديدة، ويتكيّفون مع أمزجة جديدة، يُعيد الزمان والمكان والمزاج تكوين اللاجئين، ليس اللاجئون ما كانوا في أوطانهم؛ إنما ما تحولوا إليه»
هكذا تحدث الكاتب والروائى السعودى على الشدوى في روايته «طيور إفريقيا» موضحًا بشكل ضمنى علاقة الإنسان الروحية بوطنه، وكيف يصبح مستقرًا نفسيًا ووجدانيًا وثقافيًا باستقراره وشعوره بالأمن والطمأنينة فيه. وكيف يغترب عن ذاته باضطراره للهروب من وطنه وتحوله إلى لاجئ في بلاد الآخرين، ويبدأ مع تجربة الهروب واللجوء في اكتساب سمات إنسانية وثقافية جديدة، واكتساب هوية جديدة مغايرة لما كان عليه قبل هروبه واغترابه عن بلاده.
وفى حقيقة الأمر فإن تجربة الهروب من الوطن واللجوء إلى بلاد أخرى بسبب الفقر أو الحرب أو فقدان الحرية هي تجربة وجودية قاسية، لا يُمكن أن يعرفها ويصفها بدقة إلا الذي عاشها وعرف عذاباتها وويلاتها.
والحمد لله أننا في مصر لم نعرف تجربة الهروب الجماعي من بلدنا واللجوء إلى دول أخرى في أي مرحلة من تاريخنا القديم والحديث. ورغم ما عاشه أجدادنا وآباؤنا من محن وشدائد وغزوات وحروب على مدار تاريخنا الطويل، فقد ظلوا مرتبطين بأرضهم، ولا يتصورون إمكانية الحياة في أي أرض أخرى، واتخاذها وطنا بديلا.
ولو حاولنا أن نبحث في أسباب الارتباط الوثيق بين المصريين وأرض بلادهم، لوجدنا أن المصريين كانوا يعتقدون أن الخروج من حدود مصر والبعد عن أرض الآباء والأجداد، وموطن النشأة والطفولة والصبا، هو موت معنوي وحياة في التيه؛ ولهذا رفضوا فكرة الهجرة أو اللجوء مهما كانت الأسباب، وفضلوا مغالبة الحياة القاسية في وطنهم ومواجهة مخاطر الموت الحقيقي في بلادهم.
وحتى الذين خرجوا من مصر لأسباب قهرية واغتربوا في بلاد الآخرين، فقد عاشوا في غربتهم على أمل العودة إلى مصر، ليعيشوا أيامهم الأخيرة فيها، وتضم أرضها الطاهرة أجسادهم وعظامهم في نهاية رحلة الحياة إلى جوار رفات أجدادهم وآبائهم.
وبعيدًا عن هذا التفسير الوجدانى لعلة ارتباط المصريين بوطنهم، وعدم تحولهم عبر تاريخهم- مهما كانت الأسباب- إلى لاجئين في بلاد الآخرين، فهناك في ظنى تفسير سياسى واجتماعى لذلك الأمر؛ وهو أن مصر منذ أن وحدها الملك مينا نحو عام 3100 قبل الميلاد، وهى كيان سياسى واحد بحدوده الجغرافية الحالية التي لم تنقسم أو تتداخل مع غيرها رغم ظروف القهر والغزو.
كما أن المجتمع المصري لم ينقسم عرقيًا أو ثقافيًا رغم امتزاج المصريين مع الشعوب والأجناس والثقافات الأخرى عبر التاريخ، وعاش المصريون دائمًا- رغم تنوعهم الإنسانى والثقافى والديني – يبحثون فيما بينهم على نقاط التلاقى والاتفاق التي تؤسس للتسامح وقيم العيش المشترك أكثر من البحث عن نقاط المغايرة والاختلاف التي تخلق الصراع والاقتتال الداخلى وتُهدد استقرار ووحدة المجتمع.
وهذا في يقيني الشخصي هو السر الذي صنع خصوصية مصر بين بلدان المنطقة والعالم، وجعلها «الكل في واحد».

 وهو الذي جنبها عبر تاريخها القديم والحديث تجربة الحرب الأهلية أو الدينية بين أبناء الوطن الواحد التي تدفع بالإنسان إلى الهروب من وطنه وحرب الأخوة الأعداء، واللجوء المُهين إلى بلاد الآخرين.
وإدراك تلك الخصوصية السياسية والمجتمعية والثقافية المصرية، يجعلنا نعرف سر وحدة واستقرار مجتمعنا. ويجعلنا نعرف قيمة وعظمة مصر والتاريخ الذي نحمله على ظهورنا. ويجعلنا نقول في النهاية رغم المشكلات والصعوبات والتحديات التي تواجهنا في حياتنا الراهنة: الحمد لله على نعمة البيت والوطن الآمن. الحمد لله على نعمة العيش في مجتمع مفتوح يتميز عبر تاريخه الطويل بالتسامح والتنوع الإنسانى والثقافى. الحمد لله على نعمة هذا الوطن الذي ليس لنا غيره ولن يكون، والذى يستحق أن نعرف قيمته وندرس تاريخه، وأن نخدمه جميعًا بإخلاص لكي يعز بنا ونعز به.
- نقلا عن المصري اليوم .

تم نسخ الرابط