ما أجمل أن تتابع النفحات، وتتعاقب الطاعات، في مواسم الرحمة والبركات، وهذا من فضل الله المنعم الكريم على أمة الحبيب المعصوم صلى الله عليه وسلم التي اختُصَتْ بخصائص عظيمة لم تؤتها أمة سواها، من ذلك أنها أمة ذات أعمار قليلة بالمقارنة بأعمار الأمم السابقة، لكنها أمة ذات أجور كبيرة على الأعمال القليلة، لا سيما في مواسم النفحات التي تفضل الله تعالى به هذه الأمة .
ومن بين مواسم البركات هذه أيام التشريق وهي أيام الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وقد سميت بهذه التسمية؛ لأن الناس كانوا يشرِّقون اللحم عن طريق تقطيعه قطعا صغيرة وإبرازه للشمس، وكانت هذه هي الوسيلة المثلى لحفظ اللحم والانتفاع به لفترة؛ فالتشريق مصدر للفعل شرَّق – تشريق (فعَّل تفعيل) أي: قدَّد تقديد، وثمة أسباب أخرى منها: أن هذه الأيام تابعة ليوم العيد، وصلاة العيد لا تكون إلا بعد شروق الشمس، كما قيل أيضا إن الذبح لا بعد شروق الشمس فكانت التسمية بسبب ذلك.
وهذا الأيام أيام بركة وسعة وطاعة؛ إذ إنها تعقب ركن الحج الأعظم الوقوف بعرفة، ويوم النحر؛ ففيها يفرح الحجيج بعد أن أتم الله عليهم فضله بأداء مناسك الحج، وفيها أيضا يفرح المسلمون غير الحجيج بعد أن وفقهم إلى العمل الصالح في خير أيام الدنيا أيام العشر الأولى من ذي الحجة، والأضحية في يوم النحر.
وهي أيام تستحب فيها عبادة من أجل العبادات وأعظمِها ألا وهي " ذكر الله"، تلك العبادة الجليلة التي تبعث الهدوء في النفس، والطمأنينة في القلب، وهي من أجل سمات المؤمن قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد:228)، من أجل ذلك أمر الله تعالى عباده بذكره في هذه الأيام؛ حيث يقول سبحانه: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا)(البقرة: 200).
وهي أيضا المقصودة في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة: 203).
وهي أيضا أيام أكل وشرب وتوسعة على الأهل والأولاد، وفي هذا يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) "أخرجه مسلم"
فعليك أيها المسلم وأنت توسع على نفسك وعلى أهلك في الطعام والشراب أن تخلص النية لله؛ حتى تكون ممن امتثل الأمر، واجتنب النهي؛ فالنبي صلوات ربي وتسليماته عليه أمرنا فيها بالأكل والشرب والذكر، ونهانا عن الصوم فيها، بل إن الفقهاء -عليهم سحائب الرضوان- جعلوا الصيام فيها محرما؛ لأنه مخالف للهدي النبوي.
من أجل ذلك يتضح أن من أفضل العبادات في هذه الأيام عبادة الامتثال فكلنا يعلم أن الصيام عبادة عظيمة جليلة؛ فصيام يوم واحد في سبيل الله يباعد بينك وبين النار سبعين سنة، ومع هذا فأنت تلتزم بأمر النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- بالأكل والشرب في هذه الأيام، وتجتنب الصيام فيها. فما أعطم ديننا! وما أجل شرعنا!
إن الهدي النبوي في هذه الأيام المباركة يحقق نعمتين عظيمتين: نعمةَ الجسد التي تتمثل في الطعام والشراب، ونعمةَ الروح التي تتمثل في ذكر الله وشكره على نعمائه التي لا تعد ولا تحصى(ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) (العنكبوت: 45)
وفي هذا يقول بعض العلماء: (أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيمُ أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيمُ قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعم ).
وعلينا أن نعلم أن المؤمن الفطن هو الذي يأخذ من الطعام والشراب مطية للتقوي على ذكر الله وشكره وطاعته في غير إسراف ولا تبذير.
وحري بنا نحن المسلمين أن نكثر في هذه الأيام من ذكر الله في أدبار الصلوات، وفي الأسواق، وعند ابتداء الطعام ونهايته، وعند الخلود للنوم، وفي غداة اليوم وعشيته، وفي كل موضع أو مكان يجوز فيه ذكر الله تعالى، فلقد كان سيدنا عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه – يذكر الله ويُكبر بمنىً في خيمته، فيسمعه الناس فيُكبرون فترتج منىً تكبيرا.
رزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام، ووفقنا لكل ما فيه طاعته ورضوانه، وهدانا جميعا سبل الرشاد.