كنت أسير خلف رجلين، سمعت الأول يقول: صعب عليه، قلت هو أولى..
فقال الآخر - وكان عريضا وشاربه أبيض كث -: إللي يصعب عليك، يفقرك.
أعاد الأول شكواه، فقد دعا " صنايعي" إلى بيته لإصلاح شيء، بعد أن وجده فقيرا معدما في حاجة لمساعدة، لكن الصنايعي طلب أجرة أكثر من المعتاد.
فأعادها الآخر ثانية: ما أنا قلت لك؛ " إللي يصعب عليك يفقرك ".
أردت أن أقتحم حديثهما وأقول:" فيه حد ينصح حد بألا يشفق أو يرحم الناس؟! "
لكنني لم أستطع، فظللت أتابعهما من بعيد مندهشا.
سمعت عبارة " إللي يصعب عليك يفقرك " الغريبة والمؤلمة أول مرة في برنامج تلفزيوني عن الجريمة، تحدثت المذيعة مع الصبي الذي رأف خادم المسجد بحاله، فدعاه للنوم عنده، لكن الصبي قتله وسرق نقوده.
لامته المذيعة على ذلك، فقال الصبي في برود شديد: إللي يصعب عليك يفقرك.
شعرت وقتها بأننا ندخل في نفق لا نعرف مداه، وتوقعت أن يفعل هذا الولد أشياء فظيعة في المستقبل ما دامت أفكاره بهذه القسوة.
وثاني مرة سمعت هذه العبارة من شاب إتهمته فتاة صغيرة بإغتصابها، قالت المذيعة له: ما صعبتش عليك؟!
فقال في هدوء شديد: إللي يصعب عليك يفقرك.
ذكرتني هذه العبارة الغريبة بمثل أسباني يقول: قالوا لي إن فلانا يذكرك بالسوء، فقلت: عجبا، كيف هذا، وأنا لم أقدم إليه معروفا قط؟!
كأن إتيان الشر، لا يأتي إلا من الذين نقدم إليهم الخير.
من الذي يبعث هذه الأشياء وينشرها بين الناس؟!
" إتق شر من أحسنت إليه " يا ساتر، قول يدعو للحذر ممن تقدم إليهم الخير. أو" إللي يصعب عليك؛ يفقرك " .يعني لا ترحم، ولا تأخذك بهم رأفة، بل إذا أحسست بشفقة نحو طفل أو مريض أو امرأة عجوز، إقتلهم فورا، حتى لا يقال إنك رحمت ولأن إللي يصعب عليك يفقرك. إنها إحساس يحسه اللصوص، عندما يعلمون أن النقود التي سرقوها ثمن عملية جراحية لرجل أو امرأة أو طفل: " إللي يصعب عليك؛ يفقرك ".أين تعلموا هذه المقولة البشعة؟! ربما بين أطفال الشوارع، أو في أماكن عقاب الأطفال، أو في السجون.
ذلك ذكرني بقصة لمكسيم جوركي إسمها " مخلوقات كانت رجالا " عن مجموعة من البشر، يعيشون في أسوء ظروف، فيؤذي بعضهم البعض. كانوا يجرون عربات محملة بالأثقال؛ تجرح أياديهم من قسوة العمل، فيضع البعض الملح في أماكن إمساك العربة، لكي يتألم الآخرون حين يمسكونها، فالملح سيزيد الجروح إيلاما.
هكذا هي الدنيا، كلما إزدادت قسوتها؛ إزدادت قسوة الناس بعضهم على بعض، بدلا من أن يتراحموا ليخففوا عن أنفسهم.
وتذكرت على التو رواية " السراية " للدكتور سامي البنداري؛ فقد قست الحياة على بطل القصة، فترك دراسته وعمل "عاملا زراعيا " في " الوسية"، ينحني طوال النهار على الأرض، حتي تتشقق يداه، فيسخر الملاحظ منه، ويدافع عنه أحد بلدياته، قائلا للملاحظ: حرام عليك، ده لسه جديد في المهنة.
وعند صرف الأجرة آخر الأسبوع، يعطى الملاحظ؛ للذي دافع عن البطل؛ أجرة أقل. فيقول معترضا: أنا اشتغلت الأسبوع كله، ما بطلتش ولا يوم .فيجيبه الملاحظ في إستخفاف:علشان تبقى تدافع عن بلدياتك.
كان من المفترض أن يتشاجرالعامل مع الملاحظ، أو يشكوه لرؤسائه في الوسية، لكنه لم يجد سوى أن يمسك في رقبة بلدياته ويخنقه قائلا: أنت السبب، حاخد الفرق منك أنت.
هكذا هي الدنيا عندما تقسو، تأتي على الضعيف وحده.