من الحقائق الواضحة التي لا تخطئها عين، ولا يعتريها شك أو ريب أن "الاتصال" و "الدعوة" وجهان لعملة واحدة، وأنهما متلازمان لا ينفكان عن بعضهما، ولا يسير أحدهما بمعزل غن الآخر، وإن رأي البعض أن هناك تنافرا واختلافا بين العمل الدعوي والعمل الإعلامي؛ لظهور بعض الممارسات الإعلامية غير المنضبطة بمواثيق الشرف الإعلامي المنبثقة عن القيم الدينية والأعراف المجتمعية، ولممارسة بعض الدعاة لشئون الوعظ والدعوة إلي الله، وبيان شريعته للجمهور دون ارتكاز علي قاعدة اتصالية تتسم بالأصالة والعمق والمعاصرة، ودون اعتماد علي مهارات إعلامية واتصالية تحقق الهدف المرجو، وتحدث الأثر المطلوب في الجمهور جراء التعرض للرسالة الدعوية التي تعد أعظم رسالة عرفتها البشرية قاطبة؛ فهي أم الرسالات التي بها ينصلح حال الكون، ويسعد بها المرء في دنياه وآخراه، ويظفر بالحسنيين ؛ سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، وهي الرسالة الخالدة التي أضاءت شموس الدنيا، وأنارت الكون لذوي الألباب والبصائر.
فمما لا شك فيه أن "الاتصال الدعوي الناجح والفعال" في أمس الحاجة إلي المهارات الاتصالية (التقليدية والرقمية) التي تصل برسالته إلي ملايين البشر، وتؤثر تأثيرا قويا ذائع الصيت، يبلغ مداه الآفاق، ويحدث الأثر الدعوي المرغوب، ويحقق الهدف الأسمي للرسالة الدعوية..ولن يكون ذلك إلا بالقدرة علي الإلقاء الفعال، وامتلاك أدوات الكتابة الموجزة والمعبرة، واكتساب مهارة إنتاج المحتوي الدعوي الرقمي، والتمكن من وسائل الإقناع والتأثير، ومخاطبة عقول الجماهير ووجدانهم، وخلق حالة من التواصل الفعال، والقدرة علي رصد القضايا الدينية التي تشغل بال الكثيرين، وإلقاء الضوء عليها ليتحقق للجمهور الإشباع الديني والروحي، ورفع المدركات الدينية، ونشر الوعي الديني الصحيح الذي ينبني علي وسطية الإسلام ودعوته للمحبة والمودة والتآلف بين بني البشر، ومعرفة الأحكام الشرعية التي تحقق لبني البشر الاستخلاف في الأرض، وتعمير الكون، ونشر الرسالة السمحاء في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن المعلوم أن العمل الإعلامي الذي يحدث الأثر في جمهور المخاطبين، ويؤدي رسالته السامية، ويقوم بمسئوليته الاجتماعية، في الإخبار، والتوجيه، وإحاطة الجمهور بالقضايا والملمات التي تعج بها البسيطة، وشرح هذه القضايا، وتفسيرها، وإحاطة الجمهور بخلفياتها، وأبعادها المختلفة ليكون لها الدور الأكبر في تشكيل رؤيته تجاه هذه القضايا؛ لابد وأن يتقيد بالقيم والأعراف والمواثيق الإعلامية، والقواعد المهنية الحاكمة التي تشكل قوامها علي الصدق، والدقة، والوضوح، ونشر الحقائق كاملة غير منقوصة، وعدم الخوض في الأعراض، والابتعاد عن نشر الأراجيف، والأباطيل، والأكاذيب التي تدمر المجتمع، وجل هذه الأركان من الثوابت والمباديء الأساسية التي حث عليها ديننا الحنيف، وأقرتها شريعتنا السمحاء ليعيش المجتمع في أمن وأمان بعيدا عن الصراعات والمشاحنات التي تفتك بالأمم والشعوب، وتحول حياتها إلي جحيم لا يطاق، وتؤثر علي الاستقرار الأسري، والتماسك المجتمعي، وتوجه الناس إلي ما فيه خيري الدنيا والآخرة؛ بعيدا عن المحتوي الهابط، الذي يرتكز علي القضايا الجدلية، والمسائل الخلافية، والروايات التافهة، والأحداث السطحية، وإثارة الغرائز، والتركيز علي الحاجات الجسدية، وتغييب عقول الجماهير، وعزلهم عن قضايا مجتمعاتهم.
لذا كان لزاما أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، وأن نوضح العلاقة الوطيدة بين الدعوة والاتصال، (وهي علاقة تكامل لا علاقة تضاد)، وبين العمل الدعوي والعمل الإعلامي، وهي العلاقة التي تؤكد علي حاجة الداعية للمهارات الإعلامية، وحاجة الإعلامي للقيم والأخلاقيات الدينية، وهذا مناط النجاح والتميز لكلا الفريقين.
فلكي ينجح الداعية في توصيل رسالته، ويؤثر في جمهوره بفعالية؛ لابد أن يكون علي دراية بمكونات الاتصال الدعوي وأدواته التي تؤدي دورا فاعلا ومؤثرا في تحقيق غاياته وأهدافه الدعوية، ومن بين هذه المكونات: "محتوي الرسالة الدعوية" الذي ينبغي أن يكون علي قدر كبير من البساطة والوضوح، والإيجاز، وأن يخاطب الجمهور باللغة التي تقرب المعاني وتؤدي إلي فهم الرسالة الدعوية بسهولة ويسر؛ اعتمادا علي تسلسل الأفكار، وتنظيم عرض المعلومات الدعوية، واستخدام المصطلحات الدينية المبسطة، وعرض القصص والسير، وضرب الأمثلة، والاستشهاد بالأدلة الشرعية والوقائع التاريخية، وطرحها في أوقات ملائمة، عبر أشكال اتصالية تناسب شرائح الجمهور، وتراعي قدراتهم العقلية، وتجذب انتباهم، وتثير اهتمامهم بالقضايا التي يتم طرحها بكثافة، وتؤدي إلي فهم محتواها بطريقة واضحة ومنظمة.
ومن بين هذه المكونات : "الوسيلة" التي يعتمد عليها الداعية، والتي تتطلب معرفة سماتها، وخصائصها الاتصالية، ومدي مناسبتها للموقف الاتصالي الدعوي، كالخطبة والندوة والدرس الوعظي، والوسائل الإعلامية التقليدية والرقمية التي أصبحت ذات تأثير بالغ في جمهور الرسالة الدعوية.
ويأتي " جمهور الرسالة الاتصالية الدعوية" كأحد أهم هذه المكونات، وهو المعني بفهم الرسالة الاتصالية، والتأثر بها، ويتأتي ذلك من خلال معرفة الخصائص التي تميزه، ومحددات استخدامه لوسائل الاتصال الدعوي التقليدية والرقمية، ودوافع تعرضه للمحتوي الاتصالي الدعوي، والتأثيرات المختلفة الناجمة عن تعرضه لهذا المحتوي، وأثر ذلك علي حياته، وعلاقاته بالآخرين، وسلوكه الإيجابي المكتسب من التعرض لهذا المحتوي.
ويبرز " التأثير " الذي يحدثه محتوي الاتصال الدعوي في جمهور المتلقين؛ والذي يتضمن تنمية مدركاته الدينية، وتغيير اتجاهاته نحو بعض القضايا الدينية المثيرة للجدل، وتعديل سلوكه ليتناسب مع تعاليم الأديان السمحاء، ويتسق مع القيم الدينية التي حثت عليها الشرائع كأحد المكونات الرئيسة لعملية الاتصال الدعوي.
ولكي تحدث الرسالة هذا التأثير المطلوب تمر بعدة مراحل؛ كتلقي المحتوي الاتصالي الدعوي، وفهمه، وقبوله، والتأثر به، ثم الاستجابة له، تنفيذا للأوامر الشرعية، وابتعادا عن النواهي التي نهانا عنها الشارع الحكيم، والتي تلحق ضررا كبيرا بالأفراد والمجتمعات حال الاستمرار في عدم اجتنابها.
ويأتي "الداعية" أو"القائم بالاتصال الدعوي" كأبرز مكونات الاتصال الدعوي؛ والذي يتطلب عدة عوامل تجعله أكثر تأثيرا في جمهور المتلقين؛ كامتلاك المهارات الاتصالية، والقدرة علي الإلقاء المؤثر والفعال، وإنتاج المحتوي الاتصالي الدعوي المكتوب والمسموع المقروء، والالتزام بالمصداقية، والجاذبية، وأن يكون مستوي معرفته بالقضايا الدينية التي يطرحها مستوي يتيح له التأثير والإقناع المبني علي المعلومات الصحيحة، والحقائق المؤكدة، والأدلة الدامغة، والفهم المتعمق، والرؤية الصائبة، وأن يكون اتجاهه نحو نفسه وجمهوره ورسالته الدعوية اتجاها إيجابيا وفاعلا.
وفي عصر الاتصال الرقمي، وانتشار مستحدثاته وتقنياته ، وتطورها يوما بعد يوم، وظهور التطبيقات الاتصالية التفاعلية، وتوجه الجمهور نحوها؛ أصبح لزاما علي الداعية أن يتسلح بأدوات العصر الرقمي، وأن يكتسب مهاراته، ويجيد التعامل مع أدواته وتقنياته ليجيد البلاغ عن دعوة الإسلام الخالدة، ورسالته السمحاء ؛ لتكون مصباحا يضيء الليل المظلم، وينير الدروب للحياري والتائهين،