القرآن كلام الله المعجز وكتابه المتعبد به، ومنهاجه الذي أنار الكون، وأضاء شموس الدنيا، وللقرآن جلال ووقار وهيبة لا يعرفها إلا أهله، ولا يعيها إلا حملة مشاعله، ولا يعطيها قدرها إلا من حوي القرآن في صدره، وتدبره بعقله، واستحكم من متشابهه، وتمكن من أحكامه وآدابه، وقرأه كما نزل علي نبيه.
وقد أوصانا الله جل وعلي بتلاوة كتابه حق تلاوته قائلا في محكم تنزيله" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته"(البقرة: من الآية١٢١)، كما بينت السنة النبوية المطهرة فضل الماهر بالقرآن ومنزلته السامية، ومكانته السامقة التي لا تدانيها مكانه، حيث يقول الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم" الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة".
ومن المعلوم أن القرآن الكريم كتاب تهذيب وتربية وخلق رفيع، ولهذا كان علي أهل القرآن أن يتخلقوا بأخلاقه، وأن يلزموا أنفسهم بآدابه، وأن يجاهدوا أنفسهم ليكونوا من أهله حقا وصدقا، والتزاما وتأدبا وإتقانا.
وللقرآن آداب يجب أن يتحلي بها قارئه؛ فهو كلام الله المنزل من فوق سبع سماوات، وهو دستور المسلمين المستمد منه الأحكام الشرعية التي تستهدف عمارة الأكوان، وصلاح الدنيا وفلاح الآخرة، وهو أعظم كتب السماء إلي أهل الأرض.
ورغم أن مصرنا الحبيبة تتصدر مجال الإقراء، وتمتلك الريادة، وتحوز فضل السبق في دنيا التلاوة، والتمكن، والإتقان، وتعج بالكثير من القراء العظام الذين ذاع صيتهم، ولمع بريقهم في مشارق الأرض ومغاربها، قراءة، وحفظا، وتمكنا، وإتقانا، وجمالا، وجلالا، والذين قدموا أنموذجا يحتذي في إتقان التلاوة، وجمال الصوت، وحسن الأداء فصاروا أعلاما يشار إليهم بالبنان في سالف الدهور وفي كل الأوقات والأزمان ؛ فقد انتشرت ظاهرة خطيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والواقع الافتراضي وهي ظاهرة " قراء الريلز والتيك توك والبث المباشر"، وبعض هؤلاء القراء لا يحفظ القرآن جيدا، ولا يتقن تلاوته، ولا يعرف أحكامه وآدابه، وإن وهبه الله حلاوة الصوت وجمال النغم، وهي بلية قد تجلب لصاحبها السخط والنقم.
فعندما يدرك أحد هؤلاء أن الله حباه جمال الصوت وحلاوته يسارع في تسجيل بعض الآيات، وإنتاج بعض الفيديوهات عبر الكثير من التطبيقات، تاليا بعض الآيات دون علم بأحكام تلاوة القرآن البينات الواضحات، آملا أن يحظي بالقبول والإعجاب من المشاهدين والمشاهدات، ضاربا عرض الحائط بكل قواعد الأداء القرآني الصحيح وأحكام التلاوة المنضبطة الراسخة منذ زمن فات، والتي تحتاج إلي دربة، ومران، وحسن أداء وكمال إتقان، وكثير استماع وإنصات.
وإمعانا في هذه الظاهرة التي تسعي لكسب المزيد من المشاهدات والتعليقات والإعجابات، وتسويق الصفحات لجذب المزيد من المتابعات وجلب الإعلانات التي تدر أرباحا طائلة لأصحابها الحالمين بالغني الفاحش وحصد الثروات؛ يقوم بعض "منتجي المحتوي عبر مواقع التواصل" باللعب علي أوتار العاطفة والاندهاش لدي الجماهير، مستعينا بأحد الصغار من البنين أو البنات، أو من رزقهم الله حلاوة الصوت وطلاوته من غير المتقنين لأحكام القرآن الراسخات، مسجلا له تلاوة وأخري، طارحا لها علي أسماع الجماهير، مبديا إعجابه الشديد وذهوله الشديد من وجود هذه الموهبة الفذة، موحيا لجماهيره أن أهل القراءة والإقراء، وأصحاب الاختصاص قد أغفلوا هذه الموهبة، ولم يسلطوا الضوء عليها ليستشعر هؤلاء أنه أتي بما لم يأت الأولون، وأنه اكتشف كنزا مدفونا وجوهرة ثمينة تحتاج لأن تري النور ويشع ضوئها في سماء التلاوة، وذلك علي خلاف الواقع الذي يعرفه المختصون، والذي يشير إلي أن هؤلاء أمامهم الكثير والكثير من الحفظ والإتقان والتعليم والتدريب والتأهيل ، والجلوس بين الحفاظ، وثقل الموهبة الفطرية التي حباهم الله إياها لنطلق عليهم لقب "قراء القرآن الكريم".
وهناك مظهر آخر لهذا المشهد الذي يتنافي مع هيبة القرآن وجلاله ووقاره، والريادة المصرية الخالصة في التلاوة وحسن الأداء، وهو قيام بعض 'قراء المناسبات" بالإتيان ببعض الأفعال والحركات التي تتنافي مع أحكام التجويد وآداب التلاوة لتسلط عليهم مواقع التواصل الاجتماعي الأضواء، ويتحصلون علي قدر كبير من الذيوع والانتشار والشهرة التي تعتمد علي الغرابة والإتيان بغير المألوف والمعهود والمجمع عليه بين أرباب هذا العلم، وهذا فيه من التجرؤ علي كتاب الله ما لا يخفي علي أحد، وفيه الهلكة لصاحبه، فقد روي أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها".
وهذا الواقع الأليم يحتاج إلي وقفة حاسمة، وخطوات ناجزة قاصمة، وجهود مضنية لنعيد للقرآن هيبته، وللتلاوة رونقها، ولكتاب الله حلاوته وطلاوته، ولكي تظل مصرنا الغالية دوحة القرآن، ودرة التاج بين بلاد المسلمين، والمعين الذي لا ينضب في سماء التلاوة، ونشر صحيح التلاوة بين الناس أجمعين.
وعلي قاريء القرآن الذي يقوم بالتلاوة عبر مواقع التواصل قبل أن يتقن حفظه وتلاوته أن يترفع عن التباهي بالقرآن، أو أن يستأكل به، وأن يخلص النية لله سبحانه وتعالي عند تلاوة القرآن ليكون شفيعا له يوم القيامة، فقد روي الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرأه لله.
وليدرك كل من يتصدي للتلاوة أن القرآن الكريم قد يكون شفيعا له عند ربه، ومدافعا ومنافحا عنه يوم القيامة، وقد يكون وبالا عليه، ومدعاة للعنة والنقمة، فرب تال للقرآن، والقرآن يلعنه، وهذا الكتاب المعجز قد يرفع الله به أقواما ويضع به آخرين. أسأل الله أن يحفظ كتابه، وأن يسخر له من يقوم بأمره، ويعمل بأحكامه، ويتلوه حق تلاوته، وأن يحفظه من عبث العابثين..اللهم آمين.