فساد المِلح
يا رجال العِلم يا مِلحَ البلد
من يُصلِحُ الملحُ إذا الملحُ فسَد؟!
أبو سُفيان الثوري.
ذات يوم، عُرضَت القضية للنظر في تجديد أمر حبس المتهمِين فيها، حين صار الاختصاص بتجديده، معقودا لمحكمة الجنايات، منعقدة في غرفة المشورة.
قضيةٌ عادية في وقوعها.
كم تُعرَض على المحاكم في مختلف أرجاء البلاد.
العثور على مولود حديث الولادة بحبلِه السُرِّي، في مدخل إحدى العمارات.
وما يتبعها من بَحث جهات الاختصاص، الذين غالبا ما يتوصلون إلى الفاعل.
وما يتبعه غالبا، من أن يكون الوليد من سِفاح، أو نتيجة زنا، وسواء حرَّك الزوج دعوى الزنا، أو لم يحركها.
بدأتُ في مطالعةِ مَحضر الاستدلالات، التي أجرَتها الشرطة، وكذلك أوراق التحقيقات، التي أجرتها النيابة العامة.
بلاغٌ من أحد سكان العمارة - كما تقدم القول - عن وجود لقيط بمدخل العمارة.
أمرٌ عادي، كم يحدث في الأرياف والمدن.
انتَقل رجال الشرطة وأجرَوا المعاينة اللازمة، فحَصوا كاميرات المراقبة في محيط العمارة.
سألوا مَن أمكن سؤالهم من الجيران.
إجراءاتٌ عادية، عادة ما تحدث.
تَوصلت التحريات الى أم المولود.
مَشكورٌ جهد من أجراها.
المجري الطبيعي للأمور
ثم أجرت النيابة العامة التحقيقات - من فورها - وهذا مَجرى طبيعي للأمور.
إلى هنا، وقراءتي الأوراق تكتنفها الرَّتابة، التي عادة ما تُخيم على القضاة وهم يطالعون ما ألِفوا أن يطالعونه.
كنتُ أُقلِّب في صَفحاتها برتَابةٍ ومَلل، وما أكثر ما يَملَّ القاضي مُطالعةَ ما يَتكرر في الدعاوى، التي هي من نوع واحد، أو سَماع ما يتكرر على سَمعه خلال المرافعات في الدعاوى المتماثلةِ، كقضايا المخدرات ولكنه الصبر الذي هو صِفةٌ من صفات القاضي، وفُرضَ عليه فَرضًا.
وقائع ُالجريمةِ عند هذا الحدِّ، كانت كما عهدنا مثلها في غابر الأيام، وفي مختلف البلاد التي عَمِلنا فيها، قبل أن يَلحقَ بكثير من الناس ذلك الانحدار الخُلقي، الذي ضَربَ الكثيرين منهم في مَقتل من سُلوكهم، وصار يُهددُ المجتمع في بِنيته البَشريةِ، إن لم نأخذ مثل هؤلاء بِيدٍ عَسراءَ، وإلا استفحَلَ الخطر، ونال من المجتمع أبلغ الضرر.
تَوغلتُ في القراءةِ؛ لأُحِيطَ بكل ملابساتها، وإذا بصوتٍ بين طياتها، يُدوي بأمر جَلل.
يا للهَول.
إنَّ الزانيَ بالشابةِ العِشرينية هو حماها!!.. والزوجُ الشاب - الذي هو ابنه - غائبٌ، لسَفره للخارج سَعيا على قوته.
والحماةُ تَعلم بالعلاقة القذرة عِلم اليقين، بل هي التي قررت، أن تكون الولادة في بلدٍ آخر، والعودة بالمولود، وإلقائه في مكان العثور عليه.
ما هذا الذي نُقابله في أيامِنا هذه؟.. كم حَققنا - من سنين عددا - جرائم زنا.
كم حققنا من واقعات العثور على لُقطاء.
كم رأينا من فظاعاتٍ، في القتل، والاغتصاب، والإحراق و.. و.. و.... إلخ.
بَيدَ أنها لم تكن بهذه البَشاعة واللا منطق واللا معقول!.. بل ما هذا الوجَع.
ويَستمرُ نزيف الوجَع من بين ثنايا الأوراق.
يعود الابنُ الشاب من الخارج.
ويا لهول ما كان من أمره.
هُرع إلى النيابة العامة، ليُحرِّكَ دعوى الزنا.
ضد زوجته.
وضد مَن أيضًا؟ .. ضد والده!!.. يشكو والده الزاني بزوجته.
فقدَ الملحُ صلاحيته للحِفظ.
فماذا يفعل الابن والملح قد فسَد!
انقلبَت الرَتابةُ التي بدأتُ بها اطلاعي على الأوراق، إلى إحساس غير ظاهر بأنفاس تَلهث.
وبغُصَّةٍ تضربُ الحلقَ، كأنها تُضِّق النَفَس.
يا إلهي.
ما هذا الموقف الذي وجَد هذا الابنُ الشاب نفسَه فيه؟.. كيف استقبل هذا المسكين، نبأ هذا الوجَع؟!..
هل فَكَّر؟.
هل تَدبر؟.
أم كان فريسة لإعصارٍ من اللامعقول، ضربَ جنبات نفسه، فانجرَف معه إلى أي طريق والسلام!.
هل كان عقله يعمَل عَملا طبيعيا، وهو يتخذ من الإجراءات ما اتخذ؟.
وإذا كان من حقه ما اتخذ، فما حجم المرارة التي كانت تَعتملُ بداخله، وكيف كانت الحسرة والوجع؟!.
كيف كان فورَان بركان اللا معقول في أحشائه؟.
هل اقترب النوم من جَفنيه حينها، أو بعدها، أو في اللاحق من الأيام على تلك الفاجعة؟
جَدَّدَت المحكمة أمر حبس المتهمين، وجدَّدت وقائع هذه الجريمة البشعة، الغريبة على مجتمعا، في وجدانها مزيدا من الوجع!.