ads
الجمعة 22 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

في مشهدٍ استباقي يحذرنا فيه الله سبحانه وتعالى ورد قوله "وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا" (النساء: 119). فهذه آية كريمة تشرح خطة الشيطان في إغواء الإنسان، وتعبر عن الخطاب الشيطاني وتميط اللثام عن معالمه. وهو بمفهوم عصرنا الحالي خطاب إعلامي متدرج خبيث، يسير فيه صاحبه خطوة خطوة، تبدأ الخطوة الأولى كما في الآية الكريمة بالإضلال، الذي عن طريقه ينصاع الإنسان للشيطان ناسيًا أنه هو عدوه اللدود "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا" (فاطر: 6). وعقب انتهاء مرحلة الإضلال تأتي مرحلة "الأماني"، فيزين الشيطان للإنسان شهوات النفس ويُضعف مقاومته لها ويزين له الأماني الباطلة وطول البقاء في الدنيا ونعيمها الزائل، ويحرضه على الحصول على مزيدٍ من هذا النعيم بشتى الطرق، لا سيما غير المشروعه، حتى ينسى الإنسان الآخرة ولقاء الله، ويتحول من إنسان فضله الله على سائر المخلوقات إلى آلة بشرية مجردة من القيم الروحية والأخلاقية ولا تؤمن إلا بما هو مادي. 
وعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة يتحول من عبدٍ لله إلى عبدٍ للشيطان، وليس المقصود بالعبودية هنا أن يصلي للشيطان ويركع له ويسجد، لكنما المراد الانصياع الكامل لأوامره، وطاعته في معصية الله، والتي نهى الله عنها في قوله تعالى "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (ياسين: 60). 
وعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة يتطور الخطاب الشيطاني وتتحول صيغته إلى الأمر المباشر، من الأعلى إلى الأدنى، فيتبوأ الآمر وهو الشيطان المرتبة الأعلى، وينحدر المأمور وهو الإنسان المُضلل بالأماني إلى المرتبة الأدنى ولا حول ولا قوة بالله. ويأمر الشيطانُ الإنسانَ ببتك آذان الأنعام، أي قطع أذان الأنعام، وهو كما جاء في بعض التفاسير أن الشيطان يوهم الإنسان أن قطع أذان الأنعام هو نسك وعبادة، ويكون المعنى إبعاده عن دين الله، واعتناق دين شرّعه له الشيطان. ثم يأتي الأمر الثاني وهو تغيير خلق الله "وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ"، وهذا نراه اليوم في عصرنا الحاضر واضحًا جليًا فيما يُسمى ثقافة ما بعد الحداثة وتمرد البعض على الطبيعة والجنس الذي خلقه الله عليه ذكرًا كان أو أنثى، وسط تأييد ودعمٍ من بعض الثقافات، تحولا مع الوقت إلى فرض على ثقافات أخرى، بل واضطهاد الشعوب التي لا تتناسب خصوصياتها الدينية والحضارية مع هذا الأمر، سعيًا لجعل تغيير الخِلقة والدين أيديولوجية لما بعد الحداثة. 
فشياطين الإنس والجن تحرض على التمرد على كل شيء، دون مراعاة للمقدس وغيره، ودون مراعاة لخصوصية ثقافية أو حضارية مختلفة تأبى هذا التمرد المقيت، إذ قامت في أصولها على احترام السلطات بداية من سلطة الوالدين في الأسرة، مرورًا بسلطة الحكومة والسلطة، وصولًا إلى السلطة الإلهية العليا، في تناقض كامل مع ما يُسمى اليوم بـ "الأناركية الحديثة". 
ومخطئ هو من يظن أن التمرد على الدين هو تمرد على دينٍ بعينه، بل هو تمرد على كل معتقدٍ مقدس يعتنقه الإنسان ويشعر نحوه بالانصياع. فبعض من أضلهم  الشيطان يرى أن وجود المسجد والكنيسة يُعد تخلفًا ينبغي الثورة عليه. وقد ثار هؤلاء في البداية على الدين الإسلامي، وقادوا حملات تشويه ضده، وكتبت مقالات وكتب وعُقدت مؤتمرات ولقاءات إعلامية على قنوات مشهورة لوصف الإسلام بالإرهاب، وتشويه صورة المسلمين، وتبرير حرق المصحف، ودعم صحف السخرية في حملات ممنهجة ضد رموز الدين الإسلامي، معتبرين ذلك حرية تعبير. ولم يكن مدهشًا لي أن هذه الصحف التي سخرت من رموز الإسلام هي ذاتها التي سخرت من ضحايا الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا العام الماضي، في مشهد يقول "إن من يسخر من الدين حتمًا سيسخر من أتباعه" قياسًا على ما قاله الألماني "هنريش هاين" "إن من يحرق الكتب حتمًا سيحرق البشر".
وها نحن اليوم نعيش أزمة أخرى مع انطلاق "أولمبياد باريس 2024"، وما حدث في افتتاحها من مشاهد مسيئة للمسيح عليه السلام، انتفضت على إثرها المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمتها الأزهر الشريف الذي تنبأ شيخه الأستاذ الدكتور أحمد الطيب بهذا الأمر في عام 2017، حين قال: "...إن الإسلاموفوبيا إذا لم تعمل  المؤسسات الدينية في الشرق والغرب للتصدي لها، فإنها سوف تطلق أشرعتها نحو المسيحية واليهودية، ويومها لا تنفع الحكمة التي تقول: «أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثَّورُ الأَبيَض»، فالمتربصون بالأديان من الملحدين والمعلنين موت الإله والمروجين للفلسفات المادية والآتين من أقبية النازية والشيوعية، والداعين لإباحة المخدرات، وتدمير الأسرة، وإحلال نظام «الجنس الاجتماعي»، وقتل الأجنة في بطون أمهاتها، والتشجيع على الإجهاض وحق التحول إلى ذكر وأنثى حسبما يريد المتحول ومتى يشاء... كل هذه الدعوات وغيرها كثير، قادمة بقوة، وسوف تكتسح في طريقها أول ما تكتسح الأديان الإلهية، لأنها في نظرهم مصدر الحروب، فالمسيحية ولَّدت الحروب الصليبية، والإسلام ينشر الإرهاب والدماء، ولا حل إلَّا إزالة الدين من على وجه الأرض". 
فعلينا إذن أن نتمسك بحضارتنا وخصوصيتنا الثقافية، ونرسخ لقيمنا الدينية، من خلال تعليم متطور وفكر مستنير، بعيدًا عن النمطية التي ورثناها كابرًا عن كابر، والمتمثلة في التعلم للحصول على شهادة ووظيفة وراتب شهري، فهذا سيجعلنا فريسة سهلة للخطاب الشيطاني الذي يدس دعاته السمَ في العسل ويرسخون في الذهن أن الفكر والتنوير يتعارضان مع الدين. حفظ الله بلادنا وشبابنا من كل سوء.

مشرف وحدة رصد اللغة التركية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف

تم نسخ الرابط