لا أدري هنا هل أتحدث عن رجل فقير وأذكر مواقف احتياجه وفاقته، أم أتحدث عن رجل شجاع جسور عفيف عزيز، تتجلى فيه العزة على أسمى ما تكون حتى في مشاهد فقره.!
إننا حينما نتحدث عن الفقر في حياة إنسان، فإن ذلك يستدعينا أن نخاطب الحس والشعور ونستجلب أكبر قدر من العواطف لنأسى له ونواسيه ونرثي حاله، لكن الأستاذ العقاد والذي كان الإباء والشموخ جزء لا يتجزأ من شخصه وطبيعة ذاته، أبى إلا أن يكون الحديث عنه في فقره ممزوجًا بالكبرياء والأنفة والعزة والصلابة والشموخ.
وهكذا نجد أنفسنا في تحول عجيب ونحن نتحدث عن فقر العقاد، فمن الشعور بالأسى والرثاء والمواساة لهذا الفقير المسحوق، إلى الإكبار والتعظيم لهذا العملاق الذي لا يقبل الانحناء أبدًا مهما ضاق به الحال أو قلت موارد أرزاقه أو اعتصره العوز والاحتياج.
وفي الوقت الذي نرى كثيرا من الكتاب ينافقون ويجاملون ويمالئون أو يبيعون ضمائرهم ومبادئهم وشرفهم من أجل المال والثراء.. نرى العقاد عفيفا ساميا لا يجامل أو ينافق أو يبيع مبدأه وضميره لأحد.
الحق وحده كان غايته وقصده وقدسه الذي لا يحيد عنه.
وعلى وجه آخر ربما نجد بعض الكتاب أغنياء لا يحتاجون للمال، ولكنهم كذلك يبيعون ضمائرهم وشرفهم من أجل الجاه والمنصب والسلطان، وفي هذا الميدان نرى العقاد لا يختلف كثيرًا عن صورته أمام الرغبة في المال والاحتياج له.
فقد عرضت عليه المناصب لكنه رفضها وولاها ظهره، لأنه يقدس الحرية ولا يرى نفسه في الدنيا إلا حرًا عزيزًا، لا يرى نفسه إلا ذلك العملاق الذي لا يستقيم إذا كان لأحد عليه منة أو فضلا أو جميلا يمكن أن يتوارى منه خجلا أو يمنعه تفضله عليه أن ينطق بالحق ويعبر بما يريد التعبير عنه.
هكذا كان العقاد وهكذا كان الفقر في حياته، لا يمكن أن تذكره إلا والعز والشموخ لزيم طباعه، وصفة أصيلة لا تنفك عنه، حتى ولو أهلكه الجوع، فالموت والانتحار أهون عليه أن يزل نفسه أو يبيع كرامته ومبادئه من أجل المال.
يمكن أن يستدين ويمد يده لأصدقائه وهو الذي يملك بقلمه أن ترتمي الملايين تحت قدميه.. لكنه لا يفعلها لأن ضريبتها تفقده معنى العقاد وقيمة العقاد.
كما يجب أن نسجل أن الفقر الذي تعرض له العقاد لم يكن فقرا يسيرا أو محدودا أو يستطيع صاحبه أن يتحمله إلى حسن، ولكن الأستاذ العقاد قد مرت به أيام من الفقر يمكن أن تجعل منه أسطورة في ميدانه، بل تجعل منه من مجاهدي الفقر، انظر ما يقوله الأستاذ أنيس منصور في بعض مقالاته التي يصف فيها مبلغ الفقر في حياة العقاد:
"ولم أجد في الأدب العربي أو الفكر الإنساني من هو أتعس من أبي حيان التوحيدي إلا الأستاذ العقاد. فقد جاءت في رسائل المحامي الشهير لطفي جمعة رسالة من الأستاذ العقاد تقطع القلب، فقد بعث إليه العقاد يرجوه مساعدته لأنه لا يجد طعاماً ولا شراباً لا اليوم ولا غداً."
أما هذا الفقر العنيف فكان يخرج من تربة عنيفة، تؤثر في تكوينه وشكله، فهو فقر يقوم على الإباء وتتكون منه أنسجته
"كان الأديب الكبير الأستاذ محمد فريد بك أبو حديد رحمه الله، زميلاً للأستاذ العقاد في التدريس بإحدى المدارس بحي الظاهر سنة ۱۹۱٥، حيث أعطانا لمحة ووصفا لهذا الفقر الممزوج بالإباء في حياة العقاد.
لقد ذكر أن العقاد كان يمر بحالة من الفقر الشديد ولكنه كان شديد الاعتداد بنفسه، ومع فقره في تلك الأيام فكان لا يمد يده لأي أحد، وكان قد أصدر للتو ديوانه الأول في وقت كانت صحته فيه محتاجة للعناية، إلخ.
كما لا يمكن أن نغفل أبدًا ما تعرض له العقاد من حرب شديدة شرسة من حزب الوفد لاختلافه مع قادته بعد وفاة سعد زغلول واستمر ذلك من سنة ۱۹۲۸ وحتى أواسط الثلاثينيات وبلغ الأمر أن حزب الوفد فصله بسبب آرائه، وقطع مرتبه، وكان يبلغ ثلاثين جنيها، فوقع العقاد في ضائقة مالية شديدة، وحرضت الحكومة الناشرين على عدم نشر كتب له وامتنعت الصحف عن نشر مقالاته، واضطر العقاد للاستدانة، بتفاصيل مثيرة، منها كيف عرضت عليه بعض الأسر مصاغها لبيعه وتفريج أزمته ورفضه لذلك والاكتفاء برهن المصاغ، ثم حرص العقاد على فك الرهن وتسديد ما عليه من ربع كتبه بعد زوال الغمة وتيسر الأمور، إلى غير ذلك.
ويذكر الأستاذ معتز شكري في كتابه الرائع عن الأستاذ العقاد قوله: "صفوة القول إذن أن الأستاذ العقاد لم يكن بدعاً من طابور طويل من الأدباء والفلاسفة والمفكرين والشعراء والموسيقيين والعلماء، كلهم صاروا من المشاهير، ومع ذلك فقد عاشوا حياة عوز وفاقة على الرغم من عبقريتهم، أو على الأقل عانوا من ذلك في بعض حياتهم. والعقاد هو الذي اشتهرت عنه تلك الحادثة الغريبة المثيرة عندما رفض مقابلة مندوب لدار نشر غير مصرية كانت تريد التعاقد معه على نشر بعض كتبه في بلدان آسيا الإسلامية مقابل آلاف الجنيهات الإسترلينية، وهو رقم فلكي في تلك السنوات، وجاء رفض العقاد مقابلة الرجل لأنه تأخر عن موعده نحواً من عشر دقائق، بعد أن كان العقاد قد توقف عن نشاطه وارتدى ملابسه وجلس في صالون بيته في انتظاره! وقال العقاد لابن أخيه إذا جاء الرجل فقابله أنت واعتذر له عن أي تعاقد، لأن الذي لا يحترم مواعيده لا يمكنني أن أتفق معه على شيء! وليت شعري من يفعل ذلك اليوم، بل ولا أمس ولا غداً، إلا أن يكون العقاد أو من هو في صلابة العقاد وتمسكه بالمبادئ ؟!"
بل العقاد نفسه كان يُنعي حظه دومًا فمما كان يؤثر عنه قوله:
"إن مصر بلد عجيب، إذا أرادوا تدعيم الإسلام نشروا كتبي، وإذا أرادوا أن يهاجموا الشيوعية نشروا كتبي، وإذا رشحوا أحدًا لجائزة نوبل رشحوا طه حسين!"