الخميس 19 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 مَيْلُ الرجل إلى المرأة مركوز في الطبع بِجَعْلِ الله تعالى؛ كونُها موضع التناسل، ولكيلا يُفتقر لبقاء نوع الإنسان إلى تكلف، بخلاف ميل المرأة إلى الرجل، فإنه يكون أضعف، وأما محبتُها له فإنما تحصل بالإلف والإحسان .  
وتأتي المرأة في مقدمة الشَّهوات المحبوبة؛ لأن الاستئناس بها أتمُّ وأكمل، بدليل أن الإنسان قد يحب أشياء كثيرة، لكن حبه لها لا يصل إلى درجة العشق الشديد المهلك، فهذا النوع من الحب لا يكون إلا للمرأة، وهي مَحَبَّةٌ غريزية، قذف الله بها في قلب الرجل لحكمة التوالد والتناسل. 
وأما الشهوة الثانية فهي محبة الأبناء، جعلها الله مركوزة في طبع الرجال والنساء على السواء لحكمة المحافظة عليهم وصيانتهم، حيث يغمر الوالدين شعورٌ وجداني بأن ابنهما قطعة منهما، وهو شعور يجلب السرور والبهجة، ولولا هذا الحب لما حصل التوالد،ولما تحمّل الوالدان تبعاته على الإطلاق.
وتأتي في المرتبة الثالثة: شهوة النقود ذهبا وفضة ــ أو ما يحلُّ محلهما من أوراق البنكنوت ــ لحسن منظرهما، ولما يُتَّخَذُ منهما من حُليٍّ، ولأنها تكون أعواضا عن كل ما يحتاج إليه الإنسان، فالمالك لهما كالمالك لكل شيء، لذا لا يَشتهي منها الإنسان ما يقضي به حوائجه فحسب، بل يشتهي القناطير المقنطرة، والقنطار يقال: إنه قد يعدل مائة ألف جنيه من الذهب.
وتأتي شهوة الخيل في المرتبة الرابعة، شهوةً محبوبةً مرغوبةً في القديم والحديث أيضا، لم يُنْسِ حُبَّها ما تفنن فيه البشر من صنوف المراكب برا وبحرا وجوا، إذ كل ذلك لم يغنهم عن مُتعة ركوب ظهور الخيل، والعناية بمسابقات الفروسية؛ كونُها لا تزال أمارة النبل والثراء، وباعث الزهو والخيلاء.
والخيل لا تكون شهوة إذا كانت مربوطة مهانة في العمل الشاق، بل تُشْتهى إذا كانت مُكَرَّمةً بِتَرْكِها في المروج والرياض مُدَدًا طويلة، حرة طليقة، ولا يكون ذلك إلا مع ثراء أصحابها، وسعة مراعيهم. 
وتعد الخيل من المال النفيس إذا كانت من الصافنات الجياد، وهي التي تقف على ثلاث قوائمَ وطرف حافر القائمة الرابعة لخفتها، ونفاستها، وكرم أصلها، وحُسن خِلالها، وإنما سميت خيلا لِخُيَلائها في مشيها.  
وفي المرتبة الخامسة تأتي الأنعام، شهوةً وزينة لأهل الوبر بصفة خاصة، بخلاف أهل الحضر فقد لا تتعلق بها شهواتُهم، لكنهم يحبون مشاهدتها، ويُعْنَوْن بالارتياح لرؤيتها، وأشهرها: الإبل، ويليها  البقر والغنم والمعز. يقول عنها الحق :" وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ . وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ" سورة النحل/5، 6
وفي المرتبة الأخيرة تأتي شهوة الحَرْثِ، وهي: الجنَّاتُ والحوائط وحقول الزرع. 
إذا النساء، والبنين ،والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، كلُّها في الحقيقة مُشْتَهَيَاتٍ، لكن سمّاها القرآنُ شهوات للمبالغة في بيان أن اشتهاء الناس لها يبلغ الغاية القصوى في الشدة والقوة التي لا يكاد يُصْرفُ الإنسانُ عنها إلا بتوفيق من الله تعالى.
كما أن في تسميتها شهوات حضاًّ على عدم التقاتل والتكالب عليها؛ كونها مجرد شهوات فانية منقضية تذهب لذتُها وتبقى تبعاتها. 
وإنما يتكالب عليها من انغمست نفوسهم في أوحال الطبيعة والبهيمية؛ لأن الحق لم يجعل حبها على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن الانفلات منه، بل على سبيل التحبُّب الذي يمكن زجر النفس عنه فتكتفي بالحلال منها وتنكفّ عن الحرام.
والمحب لهذه المشتهيات غافلٌ عن حقيقتها التي افتقرت إلى تزيين وتحسين يستر أو يُزيل ما يعتريها من قبح وتشويه؛ لأنها وإن كانت تشتمل على ما يجعلها ملائمة مقبولة،إلا أنها لا تخلوا من مضارَّ كثيرة؛ لذا افتقرت إلى مُزيِّنات تغطي مضارّها، وأعظمها: أنها تُلْهِي المنغمسين في حبِّها عن الاهتمام بما به فوزهم في الآخرة. 
لذا يقول الحق :" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ " سورة آل عمران/14 
فالزينة ما يُجعل في الأشياء من محاسن تُرغِّبُ الناس فيها، فإذا زُينتْ لهم أحبوها، كون الحب لا ينشأ إلا عن استحسان، فلما زينت تلك المشتهيات للناس تزْيِين حُبٍّ ـ وهو أشدُّ التزيين ــ أحبوها حبا تفاوتت به منازلهم بين شاكر للخالق نافذ من حبها إلى حبِّه سبحانه، وبين مُقصِّرٍ، وجاحد فضل الله فيها.
وقد وصف الله تلك المشتهيات بأنها: "مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ "، بما يعني أنها لا تعود على من أُعْطِيَها بالسعادة الأبدية، لأنها إن لم تفارقْه، فارقها هو بالموت، وأما السعادة الأبدية، والنعيم الدائم فهو مدخر للمتقين ينبِّئُنا الحق بذلك، ويُشوِّقُنا إلى معرفته قائلا: 
" قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ " سورة آل عمران/15
والذين اتقوا هم : المبتلون بأنواع الشهوات الصارفة عن الطاعات، فراضُوا أنفسهم مع ما في ذلك من المشقة حتى منَّ الله عليهم بأنواع هدايته، فذهبت عنهم وساوس النفس، وتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة، فانشغلت بالإبحار في عظمة الله تعالى ، والاستغراق بالكلية في معرفته.
هؤلاء هم الفائزون بجنات تجري من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة ؛لأن نعيم الجنان وإن عظُمَ فلا يتكامل إلا بأزواج يحصل بهن التأنُّس.
وزِيد عليهما رضوان من الله أكبر وأعظم من ذلك النعيم؛ ليكون أزْيَدَ في إيجاب سرورهم عندما يعرفون أن الله راض عنهم ، مثْنٍ عليهم وهُمْ في كل ذلك النعيم.
فلنحرص على أن نكون بالتقوى وعدم الانشغال بالمشتهيات عن الله من الفائزين برضوانه  سبحانه. 
اللهم إنا نسألك الستر والرضا، والجنة والرضوان. ولبلادنا دوام الأمن والاستقرار، ولقادتها التوفيق والسداد.

تم نسخ الرابط