مدرس الأدب التركي بجامعة الأزهر، ومشرف وحدة الرصد باللغة التركية بمرصد الأزهر
"مرحبًا بك أيتها الشمس المشرقة مرحبا، مرحبًا بك يا روح الأرواح مرحبًا، مرحبًا بك يا شمس العاشقين مرحبًا، مرحبًا بك يا بدر الصادقين مرحبًا، مرحبًا بك أيها المحب الصافي مرحبًا، مرحبًا بك يا رحمة للعالمين مرحبًا، مرحبًا بك يا شفيع المذنبين مرحبًا، مرحبًا بك يا دليل الأنبياء مرحبًا، مرحبًا بك يا سيد الأصفياء مرحبًا، أنت الدواء لداء القلوب، والآخذ بيد كل عاجز مكروب".
هذه أبيات للشاعر العثماني "سليمان جلبي" كتبها باللغة التركية العثمانية، وبألفاظ عربية تزيد عما فيها من كلمات تركية، مدح بها سيد البرية، ومفخرة الإنسانية، رسول الرحمة والمحبة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقام بترجمتها إلى العربيةِ أشهر من درِسَ ودرّس اللغات الشرقية في الجامعات المصرية والعربية، المرحوم الدكتور حسين مجيب المصري، رائد الأدب الإسلامي المقارن في الوطن العربي، وهو عالم جليل، ومفكر كبير، وشاعر بالتقدير جدير.
والشاعر "سليمان جلبي" شاعر تركي عثماني، وُلِد في مدينة "بورصه"، وعاش في القرن الرابع عشر الميلادي، وعاصر "أورخان بن عثمان بن ارطغرل" ثاني سلاطين الدولة العثمانية.
وبهذه القصيدة التي ذكرنا بعض أبياتها عاليًا، يُعد "سليمان جلبي" أول شاعرٍ عثماني يتحدث عن المولد النبوي، وهي قصيدة طويلة تقترب من ستمائة بيت. ويعتبر بعض المؤرخين أن هذه القصيدة هى بداية نمطٍ أدبي جديد ابتكره "سليمان جلبي"، ويُعرف باسم "مولد النبي" وهو نوع من المدائح النبوية التي ابتكرها الشعراء المتصوفة. ولا تزال هذه القصيدة تحمل أهمية بالغة عند الترك حتى الآن، رغم مرور سبعة قرون على كتابتها، وما زالوا يرددونها في المساجد والمدارس في مراسم الاحتفالات بمولد المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وتعد منظومة "سليمان جلبي" على حد قول مؤرخي الأدب التركي أفضل ما كُتِب عن المولد النبوي في الأدب التركي، ذلك الأدب الذي نشأ نشأة صوفية خالصة، وتدفقت في ثناياه شعر روحاني فاضت به قلوب الشعراء المتصوفة أمثال "أحمد يسوي" الشاعر التركي الكازخي الكبير، الشجاع الذي لم يخش هجمات المغول، والمجتهد الذي سعى إلى نشر الإسلام في بلاده. وبالرغم من أنه لم يعش في العهد العثماني إلا أنه أثر تأثيرات ثقافية كبيرة في الدولة العثمانية، ويُكِن له أتراك تركيا وأتراك آسيا الوسطى الاحترام والوقار. كذلك "جلال الدين الرومي" الشاعر الصوفي الكبير صاحب المثنوي المشهور، ومؤسس طريقة المولوية ذائعة الصيت، وابنه الصوفي الشاعر "سلطان ولد" الذي سار على درب والده.
وسار على نهج "سليمان جلبي" في مدح النبي صلى الله عليه وسلم الشاعر "خاقاني"، وألف منظومة "الحلية النبوية" التي كان لها ـــ وفقًا للدكتور مجيب المصري ــ من القداسة عند الترك ما لمولد "سليمان جلبي"، وكانت سببًا في حب الترك له ولشعره وتبركهم بقراءته، وكانت سببًا في إغداق العطايا له من الصدر الأعظم للدولة في عصره، والقصيدة مفعمة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.
كذلك الشاعر التركي الآذري الكبير "فضولي البغدادي" عملاق الشعر العثماني الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي، وكتب أشعارًا باللغات العربية والتركية والفارسية والكردية، احتوت على مواضيع صوفية وفلسفية ودينية واجتماعية، وكان لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام رضي الله عنهم نصيبًا في شعره، ومن أشعاره العربية في هذا الصدد قوله:
أثني على خير الأنام محمد، كشف الدجى بضياء بدر جماله
بثنائه رفعت مدارج قدرنا، خصت تحيته عليه وآله
ولـ "فضولي" قصيدة أخرى تسمى "قصيدة الماء" لم أستطع العثور على نصها التركي، ولا على أبيات مترجمة منها، لكن النقاد قالوا إنه نظمها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مليئة بالمعاني الصوفية، حيث عبر فيها عن الألآم التي يعاني منها العاشق من فراق معشوقه.
وهكذا كان الشعراء الترك مثلهم مثل الشعراء المسلمين في شتى بقاع الأرض ينظمون أشعارًا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وكما كان عند العرب "بردة البوصيري" ونظائرها كان عند الترك "مولد سليمان جلبي" ونظائره.