خطيئة كبرى وظلم فادح أن تحكم على كثير من الكتاب من أقلامهم، وتعتقد أن القلم قدم لك شخوصهم على طبق من ذهب، فصاروا أمامك كتابا مفتوحا، وإن هناك كاتبا إذا قرأت له وجدته فخم العبارة، جزل البلاغة، هائل البيان، وقد قدر لي ان اطلع على حاله، فإذا هناك بون شاسع بين ما ينطق به القلم، وبين نفس صاحبي.. ألا فلتعلم ان هناك عزلة تامة بين عالم القلم ونوازعه وأشواقه، وبين طبيعة تلك النفس التي تجول بين جنبي الكاتب.
إن الكاتب يمكن ان يكون تماما كالشاعر الذي وصف الله نوعه بأنهم في كل واد يهيمون، وقد اكون شر الناس، ويقوم قلمي باكبر عملية خداع في حيلتك حينما يصور لك انني أروع الناس.
ومن قديم كتبت مقالا احذر فيه من خطورة السيرة الذاتية التي يكتبها كثيرون عن حياتهم وأيامهم.
إن احدهم يكون طاغية ديكتاتورا، ثم يخدعك قلمه بانه اسما وأعظم من شهدت الأرض، كل يحاول تجميل نفسه وتحلية ذاته، كلهم يتذكرون جميل الخصال وينكرون خبيث الفعال.
كنت كثيرا ما اكتب شيئا فيعترض المعترض ويؤيد المؤيد، وفي غمرة الاخذ والرد، تظهر انفعالات وغضبات، لتكون في نظر السطحيين هي الانطباع الازلي عني، لقد تبينوا حقيقتي من سطوري، وما دروا ان اتباع السطور احيانا هو السراب المكذوب الذي لا يدل على الحقيقة.
إن كل إنسان في أمة المثقفين يعرف أن الاستاذ العقاد هو آية الغرور والكبر والعجب والغطرسة، والحق أن هذه الصورة هي نبع مما ذكرنا عن خديعة القلم، وأن القلم له عالمه الخاص الذي يوهمك بغير الحقيقة أحيانا، تلك الحقيقة التي تقر بأن العقاد كان آية في التواضع وخفض الجناح.!
يقول العقاد عن نفسه فى كتابه «أنا»: «أقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباس العقاد رجل مفرط فى التواضع، ورجل مفرط فى الرحمة واللين، ورجل لا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة، رجل لا يفلت لحظة واحدة فى ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة، ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحا من مسارح الفكاهة فى روايات شارلى شابلن جميعا، هذا الرجل هو نقيض ذلك، ولا أقول: إن هذا الرجل هو عباس العقاد بالضبط والتحقيق، ولكنى أريد أن أقول إنهم لو وصفوه بهذه الصفة لكانوا أقرب جدا إلى الصواب، ولأمكننى أن أعرفه من وصفه إذا التقيت به هنا أو هناك، خلافا لذلك الرجل المجهول الذى لا أعرفه».
وللعقاد ان يقسم ماشاء ان يقسم، فإن كثيرا من الناس لا يرون انفسهم وهي تضج بصفات ينكرها الناس، ويلحظونها فيهم بقوة.
يقول الدكتور رشيد العناني:
"في مفكرتي لعام 1966 وجدت هذا المدخل في شهر يناير (كانون الثاني): «تحدثت إلى زوجة البوّاب. سألتها عن الأستاذ العقاد فقالت إنه كان كريماً للغاية وإن خيره كان يغرق المحتاجين وإنه كان يوزع الأموال الكثيرة على الفقراء وكان يكسي أولادها في العيد وقالت إنها مريضة لا تجد علاجاً منذ مات. قلت لها يقولون إنه كان متكبراً. قالت؛ كذب! كان متواضعاً لكن لا يهمه أحد. يقول للأعور أنت أعور ولا فرق عنده بين ابن بواب وابن وزير. وإنه كان ينادي ابنتها الطفلة فيجالسها ويلاطفها."
لقد كانت هذه شهادة زوجة البواب في العقاد المظلوم، وهي شهادة عظيمة تحمل من معاني الرقة والحنان والشفقة ما يستحيل ابدا أن تنعت صاحبها بأنه المكتبر المتغطرس، ولو ان المرأة قد لمست شيئا من ذلك الادعاء يوما، لقالت أحيانا يكون متكبرا، لكن امراة طيبة على الفطرة، يكون هذا ردها السريع حينما سمعت بمثل تلك الشبهة لتقول:(كذب) فإنه رد يعني الكثير والكثير.
ولنترك زوجة بواب العمارة، لننظر إلى البواب نفسه الذي يعيش مع العقاد منذ عام 1924 حيث يقول: لقد سألني العقاد مرة عن رأيي فيه وقلت استغفر الله أنا مين.. فقال: أنت صديق.. وعندما علم أنني اقرأ الجرائد أحيانا قدم لي كتاب «الله».
ما هذا التواضع؟
من من سكان العمائر من يقول للبواب: أنت صديق؟ هل وردت عن طه حسين او هيكل باشا او كثيرا من خصومه الذين اتهموه بهذه الفرى.
ثم يهديه كتابا أعيا المثقفين من المؤيدين والمعارضين؟ اي انه يرى البواب كبيرا ويرى عقله كبيرا يستوعب معاني الكتاب.
أرأيت كيف أعطيتك نموذجا على خديعة القلم، تجاه إنسان كان اكثر الناس رقة وتواضعا؟