قد يكره الإنسان شيئا وفيه حياته، وقد يحب شيئا وفيه هلاكُه، كما أن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً تشتهيه النفس لكن يُفضي ارتكابه إلى الهلاك، وقد يكون كريهاً منافراً للنفس ويفضي فعله إلى الصلاح والنجاة.
فخرْقُ السفينة وإن كان في الظاهر يَعِيبُها، وقد كرهه ركابها؛ لأنه قد يؤدي إلى إغراقهم، إلا أنه لما كان هناك ملك يأخذ كل سفينة غير معيبة غصبا، حمِد أصحابُها ذلك الخرق لأنه أبقاها لهم.
وإقامة الجدار الذي كاد أن ينهدم في قرية اتسم أهلها بالبخل واللؤم، وإن بدا أنه فعل خير في غير أهله ومكانه، إلا أن ذلك الجدار كان تحته كنز لغلامين يتيمين، وكان أبوهما صالحا، فلو ترك الجدار لانكشف شأن الكنز، واستولى عليه اللئام، فكانت إقامته صيانة لمال اليتيمين حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما .
وموسى ـ عليه السلام ـ لم يتفطن إلى عاقبة هذه الأفعال وغايتِها، فأنكرها لأنها لم تكن ملائمة لطبع النبوة، يقول الحق ـ سبحانه ـ على لسان موسى ـ عليه السلام ـ في شأن خرق السفينة:"أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا" سورة الكهف /71، ويقول في شأن إقامة الجدار:" لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا" سورة الكهف/77
فعدَّ خرق السفينة أمرا عظيما مفظعا، كما عد فعل الخير في قرية اللئام أمرا يستوجب اللوم، إذ لا يعقل مقابلة بخلهم ولؤمهم بفعل الخير في قريتهم .
وشأن موسى عليه السلام شأنُ جمهور الناس، يحكمون على الأشياء انطلاقا من ملائمتها أو نُفْرتها لطباعهم، ويغفلون دائما عن العواقب والغايات، وقد يجهلونهما أصلا، وحكمة التكاليف والتشريعات، وكذلك القوانين، والقرارات : اعتماد المصالح ودرء والمفاسد.
وقد يتساءل الإنسان عن الحكمة والسر في جعل أشياء نافعةٍ مكروهةً، وجعل أشياء ضارة محبوبة، ولماذا لم يكن النافع كله محبوبا، والضار كله مكروها، فتنساق النفوس باختيارها للنافع، وتجتنب الضار كذلك ؟
لكن حكمة الله اقتضت قيام نظام العالم على وجود المتضادات: السلم والحرب، النافع والضار، الطيب والخبيث من الأحداث والصفات والذوات، لعل وجود الضار والخبيث يحمل الناس على النافع والطيب، ولعل قسوة الحرب وشناعتها تحملهم على الدخول في السلم .
ومراتب الناس ومبالغ عقولهم ودرجات كمالهم إنما تظهر وتتفاوت بقدر تحصيلهم الفضائل ، وتخليهم عن الرزائل، وتأملهم في عواقب الأفعال ومآلاتها قبل الإقدام عليها .
وقد نبهنا الحق سبحانه إلى ذلك قائلا:" كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ " سورة البقرة/216
أي : كُتب عليكم القتال وهو كره لكم، ومُنعتم منه وهو حِبٌّ لكم، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم، وعسى أن تحبوه وهو شر لكم.
وكان القتال كُرْها وشرا؛ لأنه يحول بين المقاتلين وبين طمأنينتهم، ولذَّاتهم ونومهم وطعامهم وأهلهم وبيوتهم، ويعرضهم لخطر الهلاك أو آلام الجراح، وهدم المساكن، ولكن بالمقابل فيه دفع المذلَّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم.
وفي الحديث " لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا" صحيح البخاري/ 3026
إن قرارات السلم وقرارات الحرب ميدان تتفاوت فيه أقدار القادة والزعماء .
و كبار الساسة وحكماؤها هم الذين ينجحون في صيانة دولهم، والمحافظة على مقدرات شعوبهم، ولا يحبون خوض المعارك والحروب إلا إذا كانوا يدرأون بالقتال ما هو أكثر شراً من القتال، ويوقنون أنهم سينجزون بسواعد الرجال ما كلَّتْ في طلبه أكف السلام .
حفظ الله مصر أرضا وقائدا وجيشا وشعبا، وأدام علينا نعمة الأمن والاستقرار .