"إن مصر القديمة تغذي الأساطير بصورة أفضل لأنها صامتة"
المؤرخ الفرنسي روبير سوليه
أكثر ما يمكن أن يستوقفني أثناء السير هو البناية .
لا شئ يفوق سحر البناية عندما تأتي شاهداً على الزمن . تحكي قصصاً وروايات عن أجيال وأحداث .
البناية هي قطعة من التاريخ .
بل قل إنها القطعة الأصدق في التاريخ .
هي مثل قطعة موسيقى لبتهوفن بثتها عبقرية بصيرته فبقيت شاهداً على الزمن .
هى مثل حيوية موسيقى موزارت ، تلك التي تراقصت الأرواح على رشاقتها ولا تزال .
البناية في أروع وصف لها كما قيل المثل الفرنسى هي الجمال الصامت .
وما أعظم أن يجتمع الصمت بالجمال .
ليس غريبا أن تصير البناية أو العمارة بشكل عام من أسس الحضارة الراسخة .
لم توجد حضارة إلا وقد أولت العمارة اهتماماً عظيماً .
وإذا كانت الحضارة في تعريف صادق لها وكما يقول الفيلسوف والكاتب الأميركى ويل دورانت
Will Durant صاحب المؤلف الضخم .
قصة الحضارة:
"هي مجموعة من الشروط تتوفر في مجتمع ما وتؤدي إلى تمكين هذا المجتمع من الإنتاج والتمايز على كافة الأصعدة: ثقافية، مادية، إنسانية.. "
وهو ما يتفق مع رأينا تماماً الذي نجد فيه أن الحضارة هي فترة د تتفوق فيها أمة على غيرها من الأمم في المجالات الرئيسية التي تنفع البشرية في حينه والتي تختلف من حيث الزمان والمكان.
وإذا كان الأمر كذلك فإننا نقول ونحن على درجة كبيرة من الاطمئنان أن كل الحضارات قد تسابقت لتتمايز فيما بينها بشأن العمارة .
بهذا المنطق رأى القدماء المصريين في العمارة أنها أعظم سجلات التاريخ على الإطلاق ذلك عندما توثق أحداث الحقب فوق جدران معابد لا تزال حروفها تنطق بمعنى الخلود .
كانت عمارة الفراعنة بوصف صديقى الباحث في أصول الحضارة ياسر سليم: "تحمل فى طياتها عنصري الألفة مع الجمال ثابتة في معادلة قيام الحضارات ولم يكن هذا الجمال والإتقان ليأتي من فراغ"
ولقد وُصف " امنحوتب" الذي شيد هرم سقارة بأنه أعظم مهندس في الكون .
لقد رأى الرومان في الحضارة أنها تعبيراً عن التفوق الثقافي بمعناه الفريد الذي برع فيه الرومان حتى أنك يمكن أن تصف بأريحية العاصمة الإيطالية روما بأنها متحف كبير أكثر من أنها مجرد عاصمة سياسية .
لقد شيدها الرومان لكى تكون شاهداً على تفوقهم الفني والثقافي ولا ننسى أنهم الذين برعوا فى القانون .
في العصور الحديثة أدركت الشعوب قيمة العمارة فى حاضرها لكونها مرآة صادقة تعكس جانب عظيم في حضارتها .
كان أكثر ما يقلق الفرنسيين عند الغزو الألماني هو الخوف على تلك العمارة التي تعد عنواناً لحضارتهم تركها لهم الأجداد .
لقد بلغ بهم الحرص على هذا الإرث العظيم أنهم تجنبوا أية مقاومة لجيوش هتلر خوفاً من دمار عمارة باريس ونقلوا المقاومة خارجها بينما كان صوت شارل ديجول ينبعث عبر أثير إذاعة "BBC" البريطانية يحث الفرنسيين على المقاومة التي ربما جاءت أشبه بتلك التي اخترعها "مهاتما غاندى" ذات يوم وسميت بالمقاومة السلبية وبعد أن هدأت الحرب لم ينس الفرنسيون أن يقيموا أهرامات زجاجية تحاكي أهرامات مصر أمام متحفهم العظيم اللوفر .
ولقد بلغ حرص رئيس وزراء بريطانيا "ونستون تشرشل" إبان الحرب العالمية الثانية وبينما كانت طائرات سلاح الجو الألماني تدك لندن بالقاذفات أنه كان من داخل مخبئه السرى يطمئن كل ساعة على "كاتدرائية وستنمنستر"
Westminster Abbey
تلك البناية العريقة التي تفخر بها الثقافة البريطانية بجانب قيمتها الروحية العظيمة فى نفوس البربطانيين .
ولقد صنفت العاصمة التيشيكة "براج" بأنها واحدة من أجمل عواصم القارة الأوروبية إن لم تكن أجملها بالفعل من أجل أنها حافظت على جمال البنايات وتراثها العمراني وربما ساعد فى ذلك أن طائرات هتلر قد أخطأت سمائها .
مصر الحديثة تمتلك هذا الجمال العمراني منذ القرن السابع عشر على أقل تقدير .
إن نظرة إلى مباني وسط القاهرة على سبيل المثال لن ترتد إليك إلا وهى محملة بقناعة راسخة بأن يد الفن قد مرت من هنا وتوقفت كثيراً هنا .
هى نفس اليد التى توقفت منذ خمسة آلاف سنة عند وادى النيل لتقيم أعظم حضارات التاريخ عندما أفاض بالحياة أعظم شرايين الحياة .
الإسكندرية ..
أول ميلاد لحضارة البحر المتوسط في التاريخ .
قبلة الإغريق والرومان والانجليز والولع الفرنسى الدائم الذي حمل نابليون على أن يصطحب فى حملته أكثر من مائة وخمسين عالماً في كل تخصصات العلوم الطبيعية والإنسانية من أجل اكتشاف مصر عبر أعظم مرافئ العالم القديم .
الإسكندرية..
تلك التي سكنها الإغريقى وترك فناً وسكنها الروماني وترك نحتاً واستوطنها القبطي وشيد فيها أديرته وكنائسه وقدم إليها العربي فأقام حضارته دون أن يهدم حضارة غيره وحتى مصر الخديوية لم تخل صفحات التاريخ فيها من جمال نُثر بأرجاء الإسكندرية لا يزال حتى اليوم يقاوم القبح بكل ما أوتى من قوة وعراقة .
فى مدينة سترات فورد
Stratford
جنوب مقاطعة "وركشير" بانجلترا على نهر أفون يتوافد إلى حيث يوجد مسكن هناك ما يقرب من خمسة مليون سائح لكى يتعرفوا عن قرب على هذا المسكن الذى كان يقطنه واحد من أعظم ما تفخر به ثقاقة العالم والتاريخ البريطانى هو الكاتب المسرحى وليم شكسبير .
وسط لندن وتحديداً بشارع "بيكر ستريت"
Baker Street
هناك شقة صغيرة تحتل الطابق الثانى في بناية أمامها طابور من الناس على مداد البصر يتطلعون لاكتشاف هذه الشقة التي كانت ميلاداً لأروع انتاجات المخرج الذى حبس أنفاس العالم وهو يتابع قصصه المصورة عن الجريمة "شرلوك هولز"
وسط العاصمة النمساوية فيينا تجد منزلاً مكوناً من ثلاث طوابق . كل طابق منها يتكون من شقة صغيرة تحمل كل ما انتجة موسيقارهم الأعظم "موزارت" جميع النوت الموسيقية التي كتبت بيدة . متعلقاته الشخصية . الكمان الذي كان يعزف عليه .
بناية صغيرة الحجم لكنها عظيمة في مكنونها الثقافي والعمراني .
أقول ذلك لأتساءل:
أين بنايات هؤلاء؟
سيد درويش .. أم كلثوم .. أحمد رامي .. عبد الحليم .. نجيب محفوظ .. توفيق الحكيم .. رياض السنباطي.. عبد الوهاب ..
وغيرهم كثر .
لماذا لم تتحول بناياتهم التي ألقوا بجنباتها إبداعاتهم مزارات قد تكون صغيرة في حجمها لكنها بغير شك ستكون عظيمة في أثرهها .
إن العمارة فى وصف أنقله عن صديقى "ياسر سليم" الذي طالما أتحدث معه عن سر جمال العمارة هى: " مرآة لا تعبر فقط عن الشىء في حد ذاته ولكنها تعكس منظومة قيم غير ظاهرة تتعدى لتصل إلى عوامل ثقافية واقتصادية وسياسية يعبر عن سلوك لفرد ومنهح تفكير مجتمع وإدراكاً لقيمة التسجيل للتاريخ"
نريد أن نستنشق هواءاً نقياً يطل علينا من شرفات بنايات شيدتها عوابق التاريخ لا أن نختنق بين ركام بنايات يسمونها عبثاً أبراج وهى ليست إلا مسخ يحاصرنا يريد أن ينال مما بقى من رؤيتنا الصادقة للجمال .