ثمة عدة ملاحظات أريد أن أبديها على الرواية التي رُددت فيها تلك الكلمة العامية التي لازمت بطلها طوال الأحداث قبل التعرض لموضوع الكلمة ذاته بل فلسفتها وتلك الملاحظات نبديها في جمل قصيرة كالتالي:
أولاً: أن هذه الرواية ولعلها المرة الوحيدة في التاريخ قد حملت ثلاثة عناوين مختلفة على مضمون واحدٍ .
فربما لا يعرف كثيرون أن أول طبعة لها حملت عنوان: "فضيحة في القاهرة" ثم كان العنوان التالي هو "القاهرة الجديدة" ثم جاءت السينما لتعطيها عنوان: "القاهرة 30"
ثانياً: أن كل عصر قد حاول أن يعبر عنه بعنوان معين يتفق مع مصالحه هو . "القاهرة الجديدة" تعني أن حالة الثورة على الوضع القائم تأتي من خلال العصر نفسه وليس من غيره بينما "القاهرة ٣٠" تعني أن الثورة على الماضي تأتي من خلال عصر ثوري يمحى ذاكرة القاهرة ٣٠ لصالح قاهرة جديدة هي قاهرة الثورة وليس سواها . والحقيقة أن الجامع بين هذا وذاك كان هو عنوانه الرواية الأصلي: "فضيحة في القاهرة" وسواء أكانت هي القاهرة الجديدة أم القاهرة ٣٠ أو حتى القاهرة اليوم . هكذا رأيت .
ثالثاً: أن من يريد أن يدرك عقل الكاتب فعليه أن يقرأ له لا أن يكتفى بمشاهدة عمله عندما تقدمه السينما . إدراك عقل الكاتب يأتي من السطور وما بين السطور وليس فقط من مجرد رؤية المشهد التمثيلي وعندما يسبح قلمه في غمار دون حد فيلج مناطق ربما لا تسمح طبيعة المشهد التمثيلي بتقديمها .
رابعاً: أن أدب نجيب محفوظ في كثير منه قد جاء متفقاً مع ما ترجمته السينما ولعل ذلك يرجع إلى التفاصيل الدقيقة التي كانت تميز كتاباته كما أنه كان من كتاب السيناريو البارعين أيضاً . هكذا نلمح ذلك في الثلاثية واللص والكلاب والرواية التي نحن بصددها وغيرها .
بعد إبداء تلك الملاحظات القصيرة نأخذ في إلقاء الضوء حول الكلمة التي جعل منها نجيب محفوظ محور الرواية وهي كلمة "طظ"
محجوب عبد الدائم أو "عبد الدايم" كما سننتهج، كان طالب فلسفة.
أدرك في لحظة قاسية من لحظات الحياة أن الفلسفة بكل عمقها الذى عرفه الإغريق ونقلناها عنهم إنما تترجمه هذه الكلمة: "طظ"
حاولت أن أعرف معنى هذه الكلمة في قاموس اللغة العربية فلم أجد لها معنى إلا في معجم تيمور الكبير للألفاظ العامية لأحمد تيمور عندما قال تحت كلمة طز التالي: "طُزّ : كلمة تقال للاستهزاء" "أو تشير إلى السخرية والاستهزاء وأصلها من اللغة العثمانية"
ودون الإغراق في تحليل أصل الكلمة نكتفي بالقول أنها تدل على السخرية والاستهزاء وهو مدخلنا في هذا المقال .
أجرى نجيب محفوظ جوهر الرواية وما أراد أن يقوله كله على لسان أربعة أصدقاء يدرسون بالجامعة معاً بالإضافة إلى إحسان شحاته التي انقسمت حياتها إلى شطرين . الأول مع علي طه الذي يؤمن بالمجتمع وقدرته على التغيير . والثاني مع محجوب عبد الدايم الذي يؤمن "بطظ" وقدرتها على صنع كل شيء ولو كان حقير .
فأما الأصدقاء الأربعة فهم: أحمد بدير . صحفي منهج حياته كله هو نقل الخير والتنبؤ بالخبر .
مأمون رضوان .
مرجعيته إسلامية .
على طه .
مرجعيته اشتراكية .
محفوظ عبد الدايم .
مرجعيته طظ .
يتحدثون يوماً أثناء طريقهم إلى الجامعة حول المبادئ .
فيقول على طه مخاطباً مأمون رضوان:
"نحن متفقان على ضرورة المبادئ للإنسان، هى البوصلة التي تهتدى بها السفينة وسط المحيط .
فيقول محجوب عبد الدايم بهدوء ورزانة:
طظ .
وهنا يقول مأمون رضوان أن المبادئ هي التي أنشأها الله عز وجل .
فيرد محجوب عليه قائلاً: لشد ما يدهشني أن يؤمن إنسان مثلك بالأساطير .
فيقول علي طه: أؤمن بالمجتمع الخلية الحية للإنسانية ، فلنرع مبادئه على شرط ألا تقدسها لأنه ينبغي أن تتجدد جيل بعد جيل بالعلماء والمربين .
وعندما يسأله أحمد بدير: ماذا يحتاج جيلنا من مبادئ؟
يرد علي طه: الإيمان بالعلم بدل الغيب ، والمجتمع بدل الجنة والإشتراكية بدل المنافسة .
فيعلق محجوب عبد الدايم على كلامه قائلاً:
طظ .. طظ .. طظ ..وعندما يسأله أحمد بدير:
- وأنت يا أستاذ محجوب ما رأيك في المناظرة؟
فيجيبه بهدوء:
طظ..
- هل المبادئ ضرورية؟
طظ..
- غير ضرورية إذاً؟
طظ..
- الدين أم العلم؟
طظ..
- في أيهما !؟
طظ ..
- أليس لك رأي ما؟
طظ ..
- وهل ظط هذه رأي يرى؟
فيقول محجوب عبد الدايم بهدوئه المصطنع:
هى المثل الأعلى .
كان محجوب عبد الدايم إذاً يحتقر كل شىء بلا استثناء وكان يعد المبادئ والأخلاق وحتى الضمير والكرامة من معوقات التقدم الإنساني ، أو لنقل على وجه التحديد من معوقات التقدم الشخصي .
شاب ولد في ظروف قاسية ثم نشأ في ظروف أقسى . يواجه الحياة دائماً بفاقة هائلة لم تجعله يحيا كإنسان ولا حتى حيوان في أوقات عدة .
كان يعيش على ثلاث جنيهات شهرياً ، انخفضت إلى جنيه واحد بعد خروج أباه على المعاش لعجزه . يرى مباهج الدنيا حوله وهو يعيش بجحر يأنف أن يعيش به الحيوان .
احتقر كل شىء وجعل من طظ أصدق شعار .
يصف نجيب محفوظ هذا الجانب من حياة محجوب عبد الدايم بقوله:
"ولبثت حياته مقفرة موحشة، فقلبه في ظلام وعقله في ثورة دائمة . كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه . وفلسفته الحرية كما يفهمها هو . وطظ أصدق شعار لها . هي التحرر من كل شىء ، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ ومن التراث الاجتماعي عامة!"
فأسرته كما يقول لم تورثه شيئاً يسعد به ومن ثم فلن يرث عنها ما يشقى به .
ثم صنع لنفسه معادلة الحياة وهى: "الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ."
كان يفسر الفلسفات بمنطقه هو .
فلقد أعجب برأي "ديكارت": "أنا أفكر فأنا موجود" ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود ثم يقول بعد ذلك: " أن نفسه أهم ما في الوجود وسعادتها هي كل ما يعنيه"
ثم يعجب مما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعاً .وكان يرى أن من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها وإذا كان العلم هو الذى هيأ له هذا التحرر من الأوهام فليس معنى ذلك أن يؤمن بالعلم ولكن حسبه أن يستغله ولطالما سخر من رجال العلم ورجال الدين على السواء .
كان هذا هو محجوب عبد الدايم كما رآه نجيب محفوظ.
شاب يرى أن المجتمع ساحر عظيم ولابد أن يتعلم سحره بل ويهزمه .
لا قيم ولا مبادئ ولا أخلاق ولا حتى ضمير يمكنه أن يوقف النفس عما تريده وعما تشتهيه.
إن نفسه هى مرجعه وهو معبودها .
لا كرامة يمكن أن توقف مسيرته أو حتى تجعله متردداً بين الإقدام والإحجام .هذا ليس مطروحاً نهائياً .
وحى أقسى المشاهد على نفس أي إنسان وهو حين ينتهك شرفه على مرأى ومسمع منه يعبر عنه نجيب محفوظ على لسان محجوب عبد الدايم ذاته بقوله: " قرنان في الرأس ، يراهما الجاهل عاراً وأراهما حلة نفيسة . قرنان في الرأس لايؤذنان أما الجوع .. ! سأكون أي شىء .. ولكن لن أكون أحمق أبداً . أحمق من يرفض وظيفة غضباً لما يسمونه كرامة .. أحمق من يقتل نفسه في سبيل ما يسمونه وطناً .. أحمق من يضيع على نفسه لذة لأي وهم من الأوهام التي ابتدعتها الإنسانية.."
ثم صاغ محجوب شعاراً وكأنه يصنع منه مادة في دستوره يقول الشعار:
"أن الفقر قيد لا يغل إلا أعناق الفقراء"
انطلق محجوب عبد الدايم إلى الأمام لا ينظر كرامة على يمينه ولا شرف على يساره . كان يرى أن المجتمع كله قد غرق في الكذب وأن النجاة منه لن تكون بالصدق بل أن يكذب أكثر حتى ليبتلع كذبه ، كذب المجتمع كله .
رواية وضعها نجيب محفوظ في النصف الأول من القرن الماضي لكنها تعيش معنا بكل تفاصيلاتها . ومازال بطلها محجوب عبد الدايم يعيش معنا بكل فلسفته التي صنعها في القرن الماضي وبهذين القرنين اللذين أشار إليهما صاحب الرواية .
القراءة الجديدة في "طظ محفوظ عبد الدايم" تنبئنا بأن طظ هذه ما تزال تجري بيننا كمجرى ماء عفن مذاقه سام لكنه يجري وتلك معادلة صعبة .
"أصحاب طظ" لايزالون بيننا ، يعتنقون ذات النهج الذى اعتنقه محجوب وجعل منه قبلته ومرجعته وربما أن خاتمة الرواية تقول لنا:
أن محجوب عبد الدايم لم يُقتل ولم يسجن ولم يمت كمداً أو يُلقي بجسده من فوق كوبري قصر النيل تكفيراً عما صنعه ... لا .. لم يرد نجيب محفوظ أن تكون هذه نهاية محجوب عبد الدايم مثل نهاية الشر التقليدية في الروايات . وكان من الممكن أن يصنع تلك النهاية في الصفحة الأخيرة منها لكنه لم يصنع وما كان يجب عليه أن يصنع . لقد رأى نجيب محفوظ أن محجوب عبد الدايم لابد وأن يوجد في كل عصر وعند كل مرحلة تاريخية وبين أفراد كل مجتمع .
وقعت فضيحة نعم ..
أُحتقر من قبل والده الذي وصفه بأنه "مات وشبع موت" نعم ..
عُزل من منصب مدير مكتب الوزير قاسم بك نعم ..
لكنه في النهاية نقل إلى أسوان في وظيفة إدارية ..!
لقد أبقاه نجيب محفوظ حياً ..!
الأديب دائماً أكثر ذكاءً من رجل السياسة لأن الأديب يمتلك من مفردات اللغة ما لا يمتلكه رجل السياسة .
لقد تنازع كما أشرنا عصران على الرواية .
عصر قال "القاهرة الجديدة" وعصر قال "القاهرة ٣٠" بينما كان صاحب الرواية أذكى عندما عبر عن محجوب عبد الدايم كفكرة لا تموت بموت صاحبها وها هو محفوظ عبد الدايم لا يخلو عصر منه ولا مجتمع منه ولا فترة تاريخية منه كما قولنا. وإذا كان نجيب محفوظ قد عبر عنه بهذين القرنين على نحو ما أشرنا سلفاً فإن القرنان ما زال يرتفعان فوق رأس كل محجوب عبد الدايم ومازالت طظ تجري على ألسنة كل من انتهج فلسفته في الحياة .