الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

لا تجد على لسان من يوجّه انتقادات إلى الدولة المصرية (أي منظومة الحُكم بأسرها) أكثر من انتقادات تتعلق بصواب الاختيار على مر العصور.

 ومن المسَلّم به أن اختيار الفرد يحتمل الصواب والخطأ، فإن أصاب فبها ونعمت؛ وإن أخطأ فالضرر عليه – وربما انسحب على بعض الأقربين من حوله.

 أما إذا أخطأ قرار من الدولة فالمؤكد أن دائرة التأثر ستكون أشد اتساعاً وأعمق نتيجةً.

 ولست هنا بصدد الحديث عن قرار يتعلق برفع الفائدة أو زيادة جمركية أو غيرها من قرارات إدارية تستوعب الداهم وتنظم العاجل، بل أتحدث عن القرارات الكبرى ذات التأثيرات الممتدة. 

ومع ذلك، فالاختيارات المرتبطة بقرارات مصيرية كبرى في مصر وتاريخها لا شك بعيدة عن تلك الانتقادات وإن طالَتها، لأنها صادرة من مؤسسات بها كفايات علمية ومهنية تتدارس قبل أن تقرر، ثم تمضي ولا تبرر – لماذا؟ لأن للحكومات ضروراتها وللشعوب اختياراتها... وليس أدل على ولا أظهر من قرار كسر حالة الحرب وإقامة السلام مع إسرائيل بعد طول عناء ومسيل دماء.

 فقد جاء ذلك القرار مخالفاً لأي ميزان توزن به الأمور يومئذٍ، لكنه خرج من رحم عقول واعية ودراسات شافية رأت الخير فلم تتأخر عنه، ورأت المقاومة المُغرضة فلم تتأثر بها، ورأت المقاطعة فلم تعبأ بها – فتقديم الصواب على ما سواه شيمة الشجعان.

لذا أسرد في هذه الأكتوبة بعض القرارات والمواقف المصيرية للدولة المصرية على مر قرن أو نحوه، قوبلت كلها بمعارضات دولية أو إقليمية أو محلية، لكن الدولة المصرية أصرت على قراراتها ذات الحسابات السديدة الآخذة بأسباب العلم والدراسة والبحث والتقصي وعلوم المستقبليات وإدارة الأزمات، فأثبتت الأيام صحة ما ذهبت إليه مصر. 

أولاً: قرار مصر بالاعتراف بالصين الشعبية عام ١٩٥٦؛ إذ كانت الصين يومئذ تسارع الخطى نحو التقدم (ولو بأساليب غير علمية أحياناً كما في أزمة إنتاج الصلب لمنافسة الغرب)، وقد آلت على نفسها الالتحاف بثوب المعسكر الشرقي الشيوعي، فهي الصين الشيوعية (إلى اليوم، ولكن "كما يفهمون الشيوعية" في نسختها الصينية بعد تعديلات رئاسية جعلتها رأسمالية مقنعة). فصار التعجب من قرار مصر بادياً في الشرق والغرب، وعارضته الولايات المتحدة بشدة، وضغطت في سبيل الرجوع عنه، ولا أستطيع فك الارتباط بين ذلك وبين سياق سياسي واستراتيجي أوسع شهد عمليات بنحاس لافون وغيرها في تلك الآونة. فما المآل؟ أصبحت الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأكبر للصين. فقرارنا القديم سديد، وإن لم نحسن استغلاله أحسن الاستغلال على مر العقود. 

ثانياً: اعترفت مصر بكوبا في عام ١٩٥٨ عندما افتتحت القاهرة مكتب مفوضيتها في هافانا، ثم رفعت مستوى التمثيل إلى سفارة في عام ١٩٥٩. تزامن ذلك مع تقارب أمريكي لاتيني (وكوبي خصوصاً) مع الاتحاد السوفيتي، ورأت الولايات المتحدة في ذلك عبثاً بفنائها الخلفي، فشرعت في إجراءات وقرارات توجت بأزمة شبه نووية عرفت تاريخياً باسم "خليج الخنازير" عام ١٩٦١، حتى إن الولايات المتحدة قطعت أواصر التجارة مع كوبا ولم تصبر على سداد مستحقاتها فصادرت طائرة الوفد الكوبي وهو جالس في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك.

  فما المآل: أزمات ومناوشات وتجنيد استخباراتي متبادل (نجحت كوبا في تجنيد مسؤولة ملفها في وكالة الاستخبارات المركزية حتى نهاية القرن الماضي... تخيلوا؟!) وشلت العقوبات الاقتصاد الكوبي، وشرعت الولايات المتحدة في اغتيال الزعيم الكوبي مرات عدة بطرق مختلفة، ثم عادت في عهد أوباما إلى تناسي الماضي وفتح السفارة الأمريكية في كوبا! 

ثالثاً: قبول مصر بمبادرة وزير الخارجية الأمريكية ويليام روجرز لوقف إطلاق النار في ١٩٦٩، وهو ما لم يلق استحساناً عاماً في الداخل وفي المنطقة، لكنه كان قراراً شجاعاً مهد للاستعداد اللازم والخداع الاستراتيجي ثم إلى الحرب ثم إلى المسار السلمي. فما المآل؟ انظر كل من عارض بدافع من العروبة أو الدين أو غيرها، هل استرد أرضه (لو كان له أرض محتلة) أو ما زال على موقفه من إسرائيل، أم تغير؟ 

رابعاً: انضمام مصر سنة ١٩٧٠ إلى الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات)، التي استحالت بعد ذلك إلى منظمة التجارة العالمية (WTO). عيب هذا القرار يومها (لا سيما من الحليف السوفيتي) لأنه جاء في ظاهره مخالفاً للتوجه الاقتصادي المصري الاشتراكي الشرقي حينها لأن تلك الاتفاقية كانت تعني أولى خطوات الانفتاح الاقتصادي المصري (اتخذ القرار في عهد الرئيس جمال عبد الناصر). فما المآل؟ أصبحت التجارة عنوان الحضور العالمي، وكلما زادت حصة التجارة للدولة -أي دولة- مع العالم زادت مصالحها وتشعبت وقوي قرارها واقتصادها. ومن عاب ذلك حينها يجاهر اليوم بخلاف ذلك. وقد انضمت روسيا -التي عابت القرار- إلى الاتفاقية بعد ذلك بنحو ٤٣ عاماً (وتحديداً في ٢٠١٣). 

خامساً: الدخول في عملية السلام مع إسرائيل بعد سنوات من الحرب حتى إبرام معاهدة السلام في ١٩٧٩.

 يومها قامت قيامة العرب ولم تقعد؛ وذهب ملك السعودية (الملك خالد، يرحمه الله) إلى جوف الكعبة داعياً أن تسقط طائرة الرئيس السادات قبل الوصول إلى القدس، واجتهد العرب -مجتمعين، إلا سلطنة عمان وبعض العلاقات الشخصية مع العقلاء من أمثال الشيخ زايد يرحمه الله- في حملة لمقاطعة مصر وتجويعها، وجندوا لذلك الإعلام والصحافة والشعراء وغيرهم. فما المآل؟ أثبتت الأيام صحة قرار مصر المدروس، وهوان التفكير العربي المضاد، واللذان توليا كبر المقاطعة يومها (صدام والقذافي)... انظر كيف آل بهما الحال وكيف مات الأول مشنوقاً والثاني مسحولاً (وهو مما آسى له وأبكي منه، لا أفرح به ولا أشمت فيه) وضاع بلداهما بكل ما لهما من إمكانات جبارة لو أُحسِن استغلالها. ثم عاد العرب مجتمعين لقبول طرح السلام المصري (بعد أن انتقصت منه إسرائيل جُله) فأعلنوا القبول بالأرض مقابل السلام في قمة بيروت ٢٠٠٢. 

وهل تحقق بعد ذلك شيء للقضية الفلسطينية؟ لا. هل نال أي بلد عربي تحتل إسرائيل منه شيئاً أرضه؟ لا. 

سادساً: هجمت موجة ما يسمى بالربيع العربي هجوماً ضارياً على بلدان لم تتماسك داخلياً لأسباب معلومة، فاختارت مصر الاختيار الاستراتيجي القويم: الحفاظ على بنيان الدول العربية بقطع النظر عن ميول نظمها الحاكمة وسياساتها... أفلم نعتبر مما ترتب على غزو العراق وإسقاط مؤسساته وحل جيشه في ٢٠٠٣؟ هل عاد العراق؟ كلا (نسأل الله له عودة حقيقية سديدة) من هنا كانت وقفة مصر الدائمة (على الرغم من الضغوط الأمنية والاقتصادية والشعبية الجارفة) في المحافل الخاصة والعامة أنه لابد من الحفاظ على مؤسسات الدولة في مصر وفي ليبيا وفي سوريا... وعارضت الدول العربية المستقرة في هذه الفترة العصيبة سياسةَ مصر، بل إنها مارست ضغوطا شديدة على مصر للي ذراعها وحملها على التسليم بسياسات تلك الدول لا لشيء إلا لدوافع تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية وإلى الاعتبار بالحقائق التاريخية. فما المآل؟ عادت الدول المعارضة إلى قبول سوريا بنظامها الحاكم الذي لم يتغير، وصار أشد معارضي ذلك النظام (في تركيا وقطر والسعودية وغيرها) يستقبلون كبار رموزه ويبرمون معه الاتفاقيات؟ ففيم كان كل ذلك السفك من الدماء والإهدار من الموارد؟ ولماذا يصعب على البعض الاهتداء بالعقل المصري المؤسسي في الملفات المصيرية على الرغم من وقوف التاريخ إلى جانبه على الدوام؟ 

سابعاً: اشتد التأزم السياسي (ولا أبالغ إن قلت: والعقاب الاقتصادي) على مصر في الأشهر الماضية لأن القوة العالمية العسكرية توافقت مع أطراف إقليمية تشاركنا الحدود أو اللسان من أجل شن الحرب على إيران... فرفضت مصر ذلك رفضاً قاطعاً، فعوقبت سياساً واقتصادياً بشدة (هذا سار حتى لحظة كتابة هذه السطور)... وكأن المطلوب من هذا البلد أن يبذل آخر جنيه في خزينته وآخر جندي في جيشه حتى ينال رضا كاتبي السياسة وموزعي صكوك الرضا الاقتصادي. فما المآل؟ لو تأنى هؤلاء وأبصروا لعلموا أن موجة "الربيع العربي" لم تترك سالماً في هذه المنطقة سوى: (١) الجيش المصري؛ و(٢) القدرة المالية الخليجية... وأي حرب من هذا القبيل ستأتي على عنصري القوة الباقيين في المنطقة. 

أما الطرف السالم من كل ذلك، والمستفيد الأكبر من شن حرب دولية مجيشة على إيران، فقد ظل طوال تلك المدة سالماً، وسيظل كذلك بعد الحرب (لا قدر الله وقوعها). 

والمآل أن أشد معارضي إيران قد فاجأ الجميع بإبرام اتفاقية معها لاستئناف العلاقات وترك العداوة.. وذلك بوساطة صينية هذه المرة! فمتى ندرك أن امتلاك بعض أسباب القوة (لا سيما الفوائض المالية) لا يعني امتلاك القوة اللازمة لتوجيه دفة السياسة العالمية، وأن تلك الفوائض ربما جلبت وبالاً على أصحابها وغيرهم، لا خيراً متوالداً كما يرتجى لها أن تكون؟!

مما سلف يتبين أن القيادة المصرية الاستراتيجية لهذه المنطقة مطلب منطقي حصيف، ولسنا ندعو في سبيل ذلك إلى إغفال كل دور وإسكات كل صوت والسطو على مقدرات الآخرين، بل إلى التسليم بحقائق التاريخ والحاضر وبمبدأ التعاون الرشيد والتشاور السديد، وباليقين أن الرصيد الحضاري للأمم ليس محض كلمات يُتغنى بها أو أناشيد يُهزَج بها... دام العقل المؤسسي المصري قوياً عفياً يتحقق فيه قول الشاعر: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها. وهذا منسحب على الفرد بحساب الشخص، وعلى الدولة بحسابها فرداً في منظومة أكبر. وإذا كان هذا العقل المؤسسي المتزن هو سبب محاولات استتباعنا وجرّنا ومحاولات سحب بساط الريادة منا، فإنني أتمثل بقول الشاعر: مُحَسَّدون على ما كان نَعَمٍ ... لا ينزع اللهُ منهم ما له حُسِدوا! 

                                                         حفظ الله الوطن. 

تم نسخ الرابط