{كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء: ٢٠].
قلت في العنوان :" فتنة التفوق والتقدم ..." وأنا أريد أن ألفت إلي شيء يدور في أذهان كثير من الناس ، وهو قد يتفوق اللاديني أو الكافر بالله في الدنيا ويتقدم وينهض، ويتخلف المتنسك أو المؤمن الذي أهمل العمل بمقتضي إيمانه وإسلامه ، فتساءل تصريحا أو تلميحا أو بينه وبين نفسه : كيف يتخلف وهو مؤمن ؟!
فكاد أن يفتن في دينه وهو لا يدري ؛ بسبب تفوق غير المؤمن علي المؤمن وتقدمه ونهضته.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا :
( ....وإننا نكشف الغطاء عن تحقيق الحق في المسألة؛ لينجلي الصبح لذي عينين فنقول: قول المسلمين : إنَّ الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم، وإنَّ خسران تلك السيادة والسعادة إنما جاء من الانحراف عن هديه- صحيح، وقول القائلين : إن الله تعالى قد جعل لارتقاء الأمم سننًا حكيمة من سار عليها فاز، ومن تنكبها خسر مهما كان دينه- صحيح أيضًا... وقد غالى كلُّ فريق في رأيه، فزعم المسلمون أنَّ الانتساب للدين فيه أسرار غير معقولة، تُعطي أصحابه قوى غيبية تكون بها غلبتهم على من سواهم، وزعم الآخرون أنَّ الدين لا أثر له في الإسعاد، بل هو موقع لأربابه في الشقاء، فأفرط الغالون، وفرَّط المارقون، اغترارًا بأُولى المسلمين، وآخرة الأوروبيين، ولم تخرج سيادة المسلمين في أول نشأتهم عن نواميس الكون، إلَّا ما أمدَّ الله به نبيَّه صلى الله تعالى عليه وسلم عند ضعف المسلمين ووهنهم بالمعونة الربانية، زيادة عن المحافظة على السنن العامة، وتلك سنته تعالى مع أنبيائه. ألم ترَ كيف كان الظفر كاملًا والتأييد شاملًا في غزوة بدر ووقعه الأحزاب ونحوهما، مع قلة المسلمين وضعفهم، ويوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا وولوا مدبرين؟ وكيف انكسروا في واقعة أُحُد؛ لإخلالهم بالسنَّة الإلهية، وهي طاعة الرئيس بالحقِّ............
أرشد الدين الإسلامي إلى السنن الإلهية، وأمر بالنظر في الكون والتفكر والاعتبار، وفصَّل ما تمسُّ إليه الحاجة، وهدانا إلى أنَّ لكلِّ عمل أثرًا لا يتعدَّاه، وأنَّ الأسباب مربوطة بمسبباتها، وكلَّ سبب يفضي إلى غاية، والأمور الدنيوية لا يمنعها الله عن طلابها، إذا أتوا البيوت من أبوابها، والتمسوا الرغائب من طرقها وأسبابها، سواء كانوا مؤمنين أم كافرين، وإنما الإيمان شرط للمثوبة في العقبى، وكمال السعادة في الدنيا { كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء: ٢٠]. بهذا كان الدين الإسلامي سببًا في سعادة ذويه وسيادتهم، عندما كانوا مهتدين بهديه، ومتمسكين بحبله، لا بأسرار خفية، وأمور غير معقولة.
لكن جهل المسلمين بتعاليم دينهم أفضى بهم إلى التفرق والانقسام، والميل مع الهوى، وجهلهم بحالة العصر زادهم عمهًا وحيرة في الدين والدنيا.........
وعجز العلماء والفقهاء عن هدايتهم إلى تعاليم الدين الموافقة لروح العصر، لعدم وقوفهم على حالة العصر، على أنَّ الباحثين عن هذه التعاليم نفر قليل في كل قطر. )
سنن الله لا تجامل أحدا:
"""""""""""""""""""""""""""""
وأقول:
اقتضت حكمة الله تعالى أن جعل لكل شيء سبباً ، ولكل غاية طريقا ، فإذا أخذ الإنسان- أي إنسان - بأسباب هذا الشيء وأحسن في ذلك حَصَّلَه بصرف النظر عن جنسه ولونه و عقيدته ؛ لأن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي فردا على حساب فرد، ولا مجتمعا على حساب مجتمع آخر ؛ فالنتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيمانا وأشدهم ورعا وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفرا وأشدهم فسقا وفجورا وعتوا إذا وافق السنن التي قد حددها ربنا لتسير الأمور على وفاقها وتقاعس عن ذلك الأكثر إيمانا : ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾[الكهف ٤٩].
ومرجع ذلك أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة و منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال والأخذ بالأسباب واتقانها والإخلاص فيها، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾[فصلت ٥٣].
فالله -سبحانه- الحكيم العليم قد أجرى هذا الكون على ناموس لا ينخرم، وهو سبحانه ـ كما يقول ابن القيم ـ قد ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا، فوضع الله سبحانه لعباده أسبابا موصلة إلى غايات، وجرت سنته التي لا تتبدل ولا تتخلف أن من أخذ بالسبب الموضوع لتلك الغاية أوصله إليها وترتب المسبب على ذلك السبب، فسنن الله في الكون لا تحابي أحدا، فلما أخذ غير المسلمين بأسباب التقدم والرقي في الدنيا حصل لهم ما أرادوا، ولما ترك المسلمون الأخذ بهذه الأسباب صاروا دونهم في هذا الشأن، فليس تقدم غيرهم وتمكين الله لهم مما هم فيه من البسطة والسعة لكرامتهم عليه أو لمنزلة لهم عنده حاشا وكلا، ولما كان المسلمون في الزمن الأول ممسكين بعرى دينهم آخذين بأسباب التقدم كانوا سادة الدنيا، وسعدوا فيها وفي الآخرة.
ومن ثم، فلولا عموم سنة الله واطرادها وثباتها لما ذُكرت لنا قصص الأمم السابقة، إذ ما يجري عليها يجري على غيرها في باقي الأزمان والأمصار، فأي أمة تنكبتها –أي سنة الله- لقيت جزاءها عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما سجله القرآن الكريم في غزوة أحد، لما أخطأ الرماة وخالفوا الأوامر النبوية لقوا جزاءهم، قال الحق جل ذكره: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(آل عمران ١٦٥)، فلا محاباة ولا تمييز أمام سنة الله.
وقيل: "هذه السنن لها وظيفة اجتماعية مهمة فهي تكشف عن أسباب الخلل وتزيل الستار عن أسباب الدمار وتثير في الإنسان فطرة الخير والصلاح، وتدعوه إلى الاستقامة ومراجعة مواقفه ووقفاته والعمل على ضبط حركاته. ومن جهة تكشف هذه السنن عن تجربة تاريخية كاملة تجد فيها الشعوب والجماعات ما ينير طريقها ويفتح بصيرتها للوقوف على نتائج اختيارها"
وفرق كبير بين التوكل على الله وبين التواكل وترك الأسباب.
فالتوكل على الله والاعتماد عليه من شعب الإيمان، ولكنه لا ينافي الأخذ بالأسباب، فإن الله عز وجل لم يأمر بالتوكل إلا بعد التحرز والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ {آل عمران:١٥٩}.
وقد كان سيد المتوكلين -صلى الله عليه وسلم- يستفرغ الوسع في الأخذ بالأسباب مع كمال توكله واعتماده على ربه، ففي الصحيحين عن عمر: أن أموال بني النضير كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدةً في سبيل الله.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: فيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال هذا من طول الأمل، لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعاً وعقلاً، وقد استأجر شعيب موسى ـ عليهما السلام ـ وفي هذا رد على جهلة المتزهدين في إخراجهم من يفعل هذا عن التوكل. اهـ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها ـ أي الناقة ـ وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟! قال: اعقلها وتوكل. رواه الترمذي.
فحقيقة التوكل إنما هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب الاعتماد على الله- عز وجل- والثقة به، وعلمه معرفته بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر، وعمل القلب لابد أن يؤثر في عمل الجوارح، والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل ـ أي الأخذ بالأسباب ـ فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، قال ابن القيم: ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً.
وختاماً أؤكد: سنة الله لا تحابي أحدا ، فمن عمل و جَدَّ في عمله نال مبتغاه ، ويزيد المسلم في ذلك توكله علي الله - أي يأخذ بالأسباب ويتوكل علي رب الأسباب - فينال توفيقه وسداده ومدده .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الفهم عنه.