تتوق نفسي دائماً إلي استشراف عوالم العميد طه حسين ،خاصة في شهر نوفمبر ذكرى رحيل ذلكم العَلَم المصري الأزهري النابغة ،الذي جسّد الفكر الأزهري الوسطي بكل معاني ( الأخوة الإنسانية ) الحقّة، الرائد العلم ،المصري الوطني الجرئ العقل ،المفطور على المناجزة والتّحدّي والمثابرة والمرابطة ، والذي أراد لأمّته انفتاحًا على الآخر / الغرب ؛رافضًا التّبعية ،وأعمل فكره كثيرًا حينما أراد للشخصية العربية الاستنارة لا الغياب ،أو التقليد الأعمى ،وللعقل العربي أن يكون موجودًا وفاعلًا ،لا أن يكون تصادميًا رجعيًا مُنعزلًا مفعولًا به ؛عبر عطاءاته الفكرية والثقافية ،ومعاركه الحضارية والنقدية ، واحتفائه بتراثه الإسلامي والعربي لِيُثبت أنه نِدٌّ للغرب ،وشريك في الحضارة الإنسانية ؛ليحيا رمزًا لتجذّر المعرفة والحكمة التي تميّزت بها أمّتنا عن باقي الأمم من حولها ،ورابطًا أصيلًا بيننا في حاضرنا ،وبين الآخر الذي عَلِمَ من خلال عميدنا ورفاقه الأعلام في مطلع القرن العشرين ؛استمرارية وحضور عطاءات أمة ( اقرأ) الحضارية ،والفكرية ، والمعرفية ،والثقافية ،والإبداعية..
عطاءات فكرية وثقافية ،ومعارك حضارية ونقدية عالمية ،عزف ألحانها الفتى الأزهري طه حسين القادم من أعماق صعيد مصر- من قرية الكيلو مركز مغاغة – فتيًّا قويًّا ،يتحدّى ببصيرته المِحَن وقيود محبسه ،حتى استطاع نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيّقة التي كان عليها إلى أوسع وأرحب بكثير ،فأضاء العالم من حوله بزخم من العطاء الإنساني المختلف في طرحه المتوحد في صوته " الطحسني " ؛فكان العميدَ الأزهري ،والرائدَ ،والناقدَ ،والمبدعَ ، والكاتبَ ،والمفكرَ ،والمثقفَ ،والوزيرَ،والأستاذَ الأكاديمي ،وكلها فضاءات جعلت منه أبرزَ رموزِ الثقافة العربية والإسلامية في القرن العشرين ،والحاضر أبدًا – إلى أن يشاء الله – في الذاكرة الإنسانية ..
حَاضِرٌ مُتجذّرٌعلى جدران " رامتان " ،تلك الواحة العربية الأصيلة التي أقامها على أرض المحروسة لتكون شاهدة على أخصب فضاءاته الفكرية والنقدية والإبداعية والوطنية ،لتشكل هذه الواحة " رامتان " وطه حسين .. ثمرة التقاء الشرق بالغرب ،الفضاء الثقافي الذي كان يُطلُّ من شُرفته على عالمه المظلم من خلال مشروعه التنويري / من خلال مستقبل الثقافة في مصر / من خلال مستقبل التعليم في مصر / من خلال مستقبل المرأة وحقوقها في صعيد مصر." رامتان " كل هذا وأكثر ؛هي عمر العميد ،مرآة حياته التي لم يبصرها إلا بوجدانه وفكره المستنير ،هي زمن طه حسين ،أجيال وثقافات ،وشاهد على العصر ،بل الشاهد
الحي لمنارة مصرالثقافية في المعاصرة التي مازالت تَروي للأجيال قصة اللقاء الحميم بين الشرق والغرب ..
نعم اللقاء الحميم بين الشرق والغرب عبر علاقة فريدة من نوعها ما زالت تبوح بأسرارها جدران " رامتان " ،ربطت بين مصر وفرنسا ،علاقة الحبّ والاحترام بين هذه الزوجة ( سوزان ) والعميد (الطحسنيّ ) ؛وهي علاقة من نوع خاص .. مسلم ومسيحية ترجما أسمى معاني الأخوة الإنسانية التي يتبناها الأزهر عبر مسيرته التنويرية لتتوهج رسميًا عالميًا اليوم على يد الحكيم ؛الإمام الطيب شيخ الأزهر،علاقة امرأة فرنسية أوربية في ثقافتها وانتمائها ،ومصري عربي الثقافة والانتماء الحضاري الإسلامي ،والذي ظهر جليًا في رحلة عُمْرَةٍ له حينما طلب زيارة ( الحديبية ) وترجّل على رمالها المباركة بخطى الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وسلّم ) ،وقبضَ من ترابها قبضة فشمّها ،ثمّ تمتم ودموعه تنساب على الرمال قائلًا :" والله إنّي لأشمُّ رائحة النبي – صلّى الله عليه وسلّم – في هذا التراب الطاهر " ..
علاقة استمرّت أكثر من خمسين عامًا ، نسجها حبٌّ عميقٌ ،واحترام لا يقل عنه عُمقًا ،وكان أكثر ما يُثير في ذلك أنّ هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة حريّة العقيدة ،فقد كانت : الحبيبة / الزوجة / الأم / الصاحبة ؛مسيحية ،وبقيت كذلك في رفقة زوج مسلم أزهري متسامح ،لا يُثنيها يومًا عن دينها ،ولا يُحاول !!!
ذلكم العميد الأزهري طه حسين ،الذي قدّم – بعد أن تشبّع بتراثه العربي والإسلامي بين أروقة الأزهر ،وطالعه من بُعد في أحضان الجامعة المصرية منذ عام 1908م ،دون أن ينقطع تردده على حلقات العلم في الجامع الأزهر ،ثمّ حاجج به الغرب هناك في (مونبلييه و(السوربون ) بفرنسا – قدّم { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }:
على هامش السيرة ،الشيخان (أبوبكر وعمر) ،الوعد الحقّ ،مرآة الإسلام ، المعذّبون في الأرض ،دعاء الكروان ،الحبّ الضائع ،نفوس للبيع ،جنّة الشوك ،أيام العمر (رسائل خاصة بينه وبين توفيق الحكيم ) ،شجرة البؤس ،حديث الأربعاء ، حديث المساء ،صوت أبي العلاء ،مع أبي العلاء في سجنه ،تجديد ذكرى أبي العلاء ،مستقبل الثقافة في مصر ،مع المتنبي ،حافظ وشوقي ،صوت باريس ،ألوان ، فصول في الأدب والنقد ،من أدبنا المعاصر ،قادة الفكر ،من حديث الشعر والنثر ، في الشعر الجاهلي ،في الأدب الجاهلي ،ناهيك عن الأيام بسردها الماتع في تاريخ جنس السيرة الأدبية ، كل ذلك وأكثر، ليكون العميد طه حسين الذي جاء متدثرًا في كل ماأبدع وأعطى بعباءة الأزهر الوسطي المنير المستنير ،وكلها عطاءات يتوجّب على المجتمع العربي أن ينفتح تربويًا وثقافيًا وفكريًا ،بل وأخلاقيًا على مثل هذا العطاء المعرفي الإنساني ،في زمن توارت فيه هُويّتنا ،حتّى أصبحنا لم نعرف فيه أنفسنا بوصفنا ( أمّة اقرأ ).