منذ سقوط نظام الرئيس "بشار الأسد" في "سوريا" في ديسمبر الماضي والجدل دائر على المواقع والصفحات والقنوات بشأن الثورة السورية و"هيئة تحرير الشام" وتحديدًا شخصية زعيمها "أبو محمد الجولاني" أو "أحمد الشرع".
وهذا الجدل بلا شكٍ له مبرراته، فالفصيل مصنف إرهابي منذ سنوات وله جذور تربطه بأخطر تنظيمين في العقود الأخيرة وهما داعش والقاعدة. و"الجولاني" نفسه كان موضوعًا حتى أيام قليلة على قوائم الإرهاب، وخصص مبلغ يقدر بـ 10 مليون دولار لمن يُدلي بمعلومات تؤدي إلى إلقاء القبض عليه. وهو ضعف أول مبلغ خصصته الخارجية الأمريكية لمن يدلي بمعلومات عن زعيم تنظيم داعش "أبو إبراهيم القرشي" خليفة "أبو بكر البغدادي"، وكذلك ضعف المبلغ الذي خُصِص للإبلاغ عن "أبو محمد العدناني" الذي كان نائبًا للجولاني ثم أصبح المتحدث الإعلامي باسم داعش، وكان يُطلق عليه الأب الروحي للذئاب المنفردة، وكذلك "أبو عمر الشيشاني" وزير دفاع داعش.
ويستمر الجدل ويزداد كلما ظهرت معلومات جديدة لم يكن يعرفها غير المتخصص في شئون التنظيمات والحركات، وبرزت على المنصات الإليكترونية أسئلة منطقية للغاية تتعلق بالسياسية والقيم والمعايير العالمية التي صنفت "أبو محمد الجولاني" يومًا ما إرهابيًا، ثم تعاملت مع "أحمد الشرع"، وأرسلت إليه الوفود الرسمية تعقد معه اللقاءات والاتفاقيات والمؤتمرات الصحفية في مشهد جعل البعيدين عن السياسة وأروقتها يتساءلون لماذا قتلت أمريكا "أبو بكر البغدادي" زعيم دولة العراق الإسلامية الذي أرسل "الجولاني" إلى "سوريا" ودعمه؟ لماذا لم تعطه الفرصة مثلما فعلت مع "الجولاني" الذي أكدت الأحداث أنه أزكى وأخطر، بدليل عدم قدرة الولايات المتحدة على الوصول إليه؟ ولماذا قتلت فرنسا "أبو وليد الصحرواي" زعيم داعش في الصحراء الكبرى، واحتفى "ماكرون" بمقتله، وفي الوقت ذاته تعيد "فرنسا" فتح سفارتها عند "الجولاني" زعيم داعش السابق في "سوريا"؟ لماذا لم تمنح فرنسا "الصحراوي" فرصة، ربما استطاع أن يحكم في المناطق التي كان له موقع قدم فيها كما فعل "الجولاني"؟ ما الفرق بين الصحراوي والجولاني؟ وما السبب وراء مقتل زعيم داعش في منطقة وفتح سفارة عند آخر في منطقة أخرى؟ ولماذا قتلت الولايات المتحدة وتحالف حرب داعش رفقاء "الجولاني" قبل ذلك، والآن يعترفون بـ "الجولاني"؟ هل لو تركوهم يعيشون حتى الآن كانوا سيعترفون بهم كاعترافهم بالجولاني؟
أسئلة كثيرة تدور في الأذهان وتثيرها الأحداث الجارية، يتعلق معظمها بالقيم الغربية رغم حدوثها في العالم العربي.
إن اللقاءات الإعلامية التي أجريت مع "الجولاني/ الشرع" والمقاطع المرئية التي نشرت له على مدار 10 سنوات تؤكد أنه في فترة ما كان يحمل فكر القاعدة، ويعترف نفسه بذلك، ويدعو لـ "أيمن الظواهري"، ويشيد بتوجيهاته. وحتى في المقطع الذي نشره في أبريل 2013 وأعلن فيه انشقاقه عن "أبو بكر البغدادي" اعترف بالفضل لـ "البغدادي" الذي أمده بالمال والرجال وخصص له نصف بيت المال. كما اعترف "الجولاني" أيضًا بأن "جبهة النصرة" ــ الاسم الأول لهيئة تحرير الشام ــ منبثقة من رحم الدولة "داعش"، وقامت على يد خلاياها النائمة في سوريا.
وفي لقائه على قناة الجزيرة في ديسمبر 2013م ذكر "الجولاني" أن الحركة الإسلامية منذ ظهور تنظيماتها وتياراتها ودعوات إعادة الخلافة وأحداث أفغانستان ونشأة جماعة الإخوان كانت إرهاصات ومقدمات لظهور المجاهدين في أرض الشام. وذكر أنه دخل "سوريا" بناء على موافقة "دولة العراق الإسلامية" التي كان زعيمها في تلك الفترة هو "أبو بكر البغدادي" وكانت تابعة لتنظيم القاعدة.
وكان الملفت للنظر في لقاء الجزيرة سالف الذكر هو إجابة "الجولاني" على سؤال متعلق بمستقبل سوريا السياسي قال فيه: "إنه من السابق لأوانه الحديث عن هذا المستقبل السياسي، وأن هناك من يستعجل المراحل ويقفز ويحرق هذه المراحل".
ومن الملفت للنظر أيضًا حديثه عن أن المطاحن وحقول البترول التي أخذوها من النظام السوري تشرف عليها الهيئة الشرعية في "جبهة النصرة" ومعها فصائل أخرى. وهو ما يتماشى مع الفقرة السابقة ويوضح أن هذا الخطاب المتسامح مع كافة الفصائل والأفكار كان خطابًا مرحليًا يؤكد أن "الجولاني" كان لديه مشروع مخطط له وذو مراحل مختلفة، لكل مرحلة رجالها وأهدافها وخطابها. وهو ما يفسر أن صاحب هذا الخطاب الهادئ المتسامح هو ذاته ـــ في مرحلة أخرى ـــ من حارب من وصفهم ــ قبل ذلك ــ بأصحاب الفضل وشركاء الكفاح والنضال، وهدد بنقل المعركة إلى عقر دارهم وقتلهم في بيوتهم. وهو ذاته من يتحدث الآن عن الدستور والقانون والانتخابات بعد أن عارضهم قبل ذلك وانتقد من يمارسونهم.
إن شخصية "أبو محمد الجولاني/ أحمد الشرع" تحتاج إلى بحث ودراسة موضوعية ومتأنية تميط اللثام عن أسرار هذه الشخصية وتكشف غموضها دون تهوين أو تهويل، دراسة قائمة على كلماته ومستندة على مواقفه في السابق والحالي حتى نستطيع في النهاية إعطاء حكم بشأنه يستفيد منه من يهمهم الأمر، وهو ما سنحاول القيام به عبر مجموعة من المقالات في الفترة المقبلة سائلين الله التوفيق والتيسير.
———-
د. حمادة شعبان، مشرف وحدة رصد اللغة التركية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف