من الفرائد التي تفردت بها سورة الإسراء أنها تحدثت عن القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، وهذا العدد لم يأت بهذه الكثرة في أي سورة من سور القرآن الكريم، حتى في أطول سورة منه (البقرة)، ولا في السورة التي سميت باسم القرآن ( الفرقان ).
ومعجزة الإسراء معجزة غيرت وجه الحياة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أصحابه الكرام، وبني إسرائيل أنفسهم، لأنهم أدركوا المغزى من اصطفاف أنبيائهم خلف نبينا صلى الله عليه وسلم، فهذا يؤذن بانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب، فقد غربت شمس النبوات فيهم، وأشرقت في العرب بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والطبيعي أن معجزة بهذا الحجم تتطلب حديثا موسعا عن الرحلة وما دار فيها ...الخ هذا، إلا أننا رأينا الحق يتكلم في بداية السورة عن تنزيه من أقام هذه المعجزة فقط في قوله عز من قائل
{سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ (١)}
ثم بين طبيعة بني إسرائيل في فسادهم وإفسادهم وأنهم أوتوا ملكا عظيما وفضلا كبيرا، فلم يتعاملوا بمقتضاه، ولم يرعوا حق الله تعالى فيه، فما كان من رد عليهم سوى أنه أذن بنقل النبوة منهم، لأنهم ظنوا أن تعاقب النبوة فيهم دليل شرف ورفعة، وتناسوا أنها تكليف ينبغي أن يرعوا حقه، والعقاب لهم بسبب جرمهم، ولا يظلم ربك أحدا
إن من لم يحسن التعامل مع النعم تتبدد من بين يديه،
وهذا ما يشير إليه ابن رزيق البغدادي
رزقت ملكا فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا
شكر عليه فإن الله ينزعه
والتنكر لنعم الله له صور كثيرة، منها: عدم مد يد العون للمحاويج، سواء كان العطاء ماديا أو معنويا
ورحم الله الشافعي حين قال:
وأنطقت الدراهم بعد صمت
أناسا طالما كانوا سكوتا
فما عطفوا على أحد بفضل
ولا عرفوا لمكرمة بيوتا
جاء الحديث عن القرآن الكريم في هذه السورة في هذه المواضع على هذا النسق، قال تعالى :
{إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩)}
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا۟ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤١)}
وقال سبحانه:
{وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (٤٥)}
وقال عز اسمه:
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِىٓ أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِى ٱلْقُرْءَانِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَٰنًا كَبِيرًا (٦٠)}
وقال تعالى:
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨)
وقال ربنا :
{وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢)}
وقال سبحانه:
{قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُوا۟ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)}
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰٓ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩)}
قال تعالى:
{وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَٰهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (١٠٥)}
قال تعالى :
{قُلْ ءَامِنُوا۟ بِهِۦٓ أَوْ لَا تُؤْمِنُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِۦٓ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧)}
لعل السر في التنويه بالقرآن في هذه السورة بهذه الكثرة، لبيان أن القرآن الذي صاغ حياة الأولين، وبوأهم أعلى المنازل هو هو الذي يمكن الأمة الآن من تحقيق الريادة، والعلو والأخذ بيدها إلى مراقي الصعود، في وقت تطاول أراذل الناس على مقدساتها، وسفكوا دماء الأبرياء، وأذلوا أعزة الناس.
اللهم هيىء لأمتنا من أمرها رشدا، واجعل غدها خيرا من أمسها، أنت ولي ذلك ومولاه.