عندما وضع اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر.. خطته لافساد المشروع التعليمي الذي تبناه الخديوي إسماعيل وساعده علي تنفيذه الأعيان والوجهاء بإنشاء المدارس للبنات والبنين واستئناف البعثات التعليمية التي بدأها محمد علي باشا عقب رحيل الجنود الفرنسيين ابتكر المصريون سلاحا بسيطا ومؤثرا لافساد المخطط الاستعماري.. اختصار التعليم علي المرحلة الابتدائية.. يكفي لتخرج طبقة صغار الموظفين.. عرفت مصر »الكتاتيب« ونشروها في بر مصر.. مجرد مكان صغير يلحق غالبا بالمسجد ويتولي مسئوليته الشيخ من حفظة القرآن الكريم غالبا ضريرا فاقد البصر.. يساعده عريفه.. يأتي إليه الصغار كل صباح ومعهم اللوح الاردوازي لكتابة الحروف العربية.. وأرقام الحساب.. يلتفون حول الشيخ في حلقة يحفظون صغار السور سماعي ويرددونها حتي تمام الحفظ.
منهم من يسعده الحظ باكمال التعليم في المدارس العادية أو المعاهد الأزهرية التابعة في ذلك الوقت لجمعيات خيرية هدفها الحفاظ علي كتاب الله ورعاية الفقراء والمحتاجين.. وربما ذهبوا بعدها إلي المدينة المجاورة أو المركز للالتحاق بالمدرسة الثانوية إذا سمحت امكانيات أسرته باستئجار غرفة صغيرة له.. أو أجرة الانتقال علي الدابة من القرية صباحا والا اكتفي بما تعلمه في الكتاب من فك الخط والقراءة وحفظ الآيات التي تتيح له أداء الصلوات الخمس في الميعاد.
المعروف أن أجدادنا بصفة عامة خاصة القادمين من أصول ريفية أو سكنوا أحياء شعبية وأنا منهم.. قد التحقوا بالكتاتيب إما قبل سن الدراسة الرسمية.. أو في الأجازات الصيفية.. حيث كانت الأمهات يحرصن علي ارسال الطعام والفطير والكعك والفاكهة أحيانا إلي الشيخ ومساعده العريف.
وبالتالي رغم التطور والتقدم في المسيرة التعليمية.. وأنواع التعليم والتخصصات والمدارس القومية والدولية وغيرها.. ظلت الكتاتيب تقاوم الرعيل ومن خلال مبادرات المساجد (خاصة بالصيف والمواسم مثل شهري رجب ورمضان).. تخصيص ركن في حصن المسجد وربما غرفة ضمن المرافق المستحدثة (عيادات- دور مناسبات) لاستقبال أبناء ساكني الشارع والحي وتوفير من يستطيع من المتقدمين الشباب.. القيام بهذه المهمة النبيلة.. والتي تحقق مردودا طبيا في جميع الحالات سواء حفظ وتدبر آيات الذكر الحكيم وكذلك اجادة اللغة العربية وحمايتها من الفرنجة وموجات التغريب.
ويذكر بالامتنان والتقدير رعاية الدولة لهذا العمل.. وتشجيع الأبناء الشباب والشابات علي حفظ المصحف الشريف بالكامل أو ما تيسر من أجزاء.. بمسابقات تنظم سنويا علي جميع المستويات وتكرم الدولة الفائزين فيها ماديا وأدبيا.. وترعاهم لمواصلة مشوار التفوق والنجاح.. بل وفتحت أبواب »المقرأة« الملحق بعدد من المساجد الكبري.. وتستقبل الكبار الراغبين في حفظ آيات الذكر الحكيم.. ينتظمون في حلقات الحفظ والتفسير.
والآن مع العزم علي عودة بأسلوب حديث لمنظومة الكتاتيب لكي تكون أكثر تأثيرا ونجاحا.. والوصول الكريم لظاهرة عريقة كريمة تبعث في أرض الكنانة.. ومع الترحيب الشديد.. نثق أن تعاون الأزهر الشريف والأوقاف.. وتنسيق الهيكل الإداري والتنظيمي.. نجدها خطوة إلي الأمام تحمل كل الخير للجميع تستحق الحوار المجتمعي مع أولي الرأي والخبراء.. لتدخل الكتاتيب.. ضمن السلم التعليمي للمعاهد الأزهرية كمرحلة تسبق المرحلة الابتدائية سنيا (للأطفال من الثالثة إلي السادسة من العمر) يتعلمون فيها بالطرق الحديثة.. الخطوات الأولي لحماية اللغة العربية وإعادة الازدهار وحمايتها من التغريب.. باعتبارها لغة القرآن الكريم.. وتتحول الكتاتيب إلي أماكن لاكتشاف ورعاية الموهوبين.. فكم من الصغار أبهرونا باتمام حفظ كتاب الله.. في سن مبكرة.. يحافظون علي أصول تلاوة سوره وآياته بأصوات ملائكية قادمة من الجنة.. وجزي الله سبحانه وتعالي العاملين المخلصين بكل خير.