قد يبدو العنوان غريبًا، فالتسلح وامتلاك القوة إنَّما يكون للحرب، ولكن بقليل من التأمل سندرك سويًّا أنَّ التسلح الجيد هو مفتاح السلام، وقد نبهنا ربنا إلى ذلك ببعض آيات في كتابه، يفهما بعض الناس على أنها آيات حرب، وهي ليست كذلك، ومن ذلك قوله – تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [الأنفال 60]، فهي وإن بدت لمن يفهمون النصوص على ما تظهره بعض كلماتها دون إتمامهم لفهم المعنى مكتملًا أنها تطالب المسلمين بامتلاك ما يستطيعون من التسلح وآلات القتال للفتك بأعدائهم؛ وهي في الحقيقة ليست كذلك، وإنما هي من آيات السلام، ودرء الاقتتال بين الناس؛ ولذا ترى الآية تعلل في نهايتها بأنَّ امتلاك الأسلحة، والأخذ بأسباب القوة إنما هو لإخافة العدو وليست لقتاله.
فإذا خاف منا عدونا لقوتنا وعلم يقينًا أنَّه إن نازلنا في معركة فسينهزم؛ لقوتنا وتفوقنا عليه، امتنع عن قتالنا وقبل السلام بيننا وبينه، وإلا كان أحمقًا؛ لأنَّه يعرض جيشه لتهلكة محققة، بخلاف ما لو علم ضعف تسليحنا وضعف قدراتنا، وخبرتنا القتاليَّة، أو علم تملك الخوف من قلوبنا؛ حيث سيرفض كلَّ محاولات السلام، فمصلحته ليست في السلام الذي لا يجلب له إلا ترك قتال لا يخشاه لقوته، بينما الحرب ستحقق له مغانم يغنمها.
وأتذكر وأبناء جيلي وما قبله ما فعله الرئيس السادات حين قبل وقف الحرب مع الصهاينة بعد أن دكَّ حصونهم، وظهر تفوق قواتنا المسلحة بالإيمان بالله وبعدالة قضيتنا والمهارات القتاليَّة التي مرت بها قواتنا؛ لتعويض فارق التسلح بينا وبينهم، وذلك بعد أن سيرت أمريكا جسرًا جويًّا ليس لتل أبيب، وإنما لسيناء مباشرة، حيث تدور العمليَّات العسكريَّة، فالطائرات بمقاتليها محملة بكلِّ آلات القتال الحديثة تدخل في المعركة مباشرة، وهنا قال كلمته الشهيرة ردًّا على من لاموه لوقف القتال قبل اكتمال تحرير سيناء:(أنا مش هحارب أمريكا)، وقد كان - رحمه الله- قائدًا محنَّكًا يعرف كيف تدار الحرب، ومتى تنتهي مهمتها، وكيف تدار عمليَّة السلام، والعبرة بالنتيجة التي انتهت إلى نصر مظفر في جملته أعاد لنا أرضنا بالكامل حربًا ثم سلمًا، وما فشلت مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والصهاينة إلا لتفوق جيشهم عدة وعتادًا في مقابل فقر متقع في تسليح الفلسطينيين الذي يلقنون الصهاينة درسًا من آن لآخر بما يمتلكونه من إيمان بالله، وبحقهم في استرداد أرضهم.
وما قَبِلَ الصهاينة السلام معنا بعد حرب أكتوبر 1973م إلا بعد اكتشافهم قوتنا البشريَّة التي عوضت تفوقهم التسليحي عن تسلحنا وقتها؛ ولذا فقد علموا أنَّ الحرب ليست لصالحهم، وأنَّ فرص تحقيق انتصارات على جيش مصر قد ذهبت إلى غير رجعة ،لاسيما وقد واصل جيشنا بعد السلام تحديث أسلحته؛ حتى أصبح من أهم جيوش العالم، الذي يحسب له ألف حساب، وقوة جيشنا وامتلاكه أحدث ما عرفه العالم من وسائل القتال برًّا وبحرًا وجوًّا هو ما أبعد عنا شبح الحروب، وجلب لنا السلام الذي نعيش فيه، ولو كنا ضعافًا لما تحقق سلام، ولدار بيننا وبين عدونا التاريخي العديد من الحروب، خلت عنها العقود الماضية بعد اتفاقيَّة السلام التي وقعت في كامب ديفيد.
وقد رسم لنا ربنا في كتابه طريقًا محكمًا لو سلكناه ما تغلب علينا عدو يقاتلنا، بل لجنبنا القتال بالكليَّة، وهذا الطريق يبدأ بوحدة صفوفنا، ونبذ الفرقة والانقسام؛ ولذا أمرنا بالاعتصام في قوله تعالى :{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }[ آل عمران 103]. فالإيمان بالله ووحدة الصف بين المسلمين هو اللبنة الأساس لقوة الأُمَّة وضمانة بقائها وابتعاد الأعداء عنها، فإن ناصبتنا أُمَّة العداء فلنعد أنفسنا للقتال إن اضطررنا إليه : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[ الأنفال:60]، فإن توقعنا قتالهم لنا فليتشاور الساسة وخبراء الجيش ومَنْ يرون مشورته من أهل الرأي بناء على دراسة قوتنا وقوة الخصم؛ لاختيار أفضل السبل في التعامل مع العدو، ومع امتلاكنا للقوة الكافية لردع عدونا إن قاتلناه فليكن قبول السلام مقدَّمًا متى اختاره العدو، وهذا هو الفرق بيننا وبين عدونا، فهم لا يقبلون السلام حال تفوق قوتهم، أما نحن فديننا دين السلام يأمرنا باختيار السلام متى كان سلامًا عن قوة ؛ ولذا نلاحظ أنَّ قوله تعالى :{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[ الأنفال:60] جاء بعد أمرنا باتخاذ أسباب القوة :{ وأعدوا لهم ما استطعتم } فاستجداء السلام من رافضه ضعف وتخاذل واستسلام نهينا عنه :{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }[ محمد:35].
وهذا التشاور بين الإقدام على حرب عدونا من عدمه إنما يكون وقت دراسة الموقف وقبل نشوب الحرب، أمَّا إذا دارت رحى المعركة فلا تشاور، وإنما الاجتهاد في قتال العدو؛ لأنَّ التشاور اختلاف رأي، وهو في حال القتال وَهَنٌ وضعف يؤدي للانكسار والهزيمة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }[ الأنفال:46].
وهذا يعني أن القرار السياسي متى صدر فقد انتهى وقت التشاور، وعلى الجميع حتى من كان رافضًا أثناء التشاور لخيار الحرب أن يقاتل بكلِّ قوته؛ وإلا كان خائنًا لدينه ووطنه، فإنَّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر في شريعتنا، وفي جميع الأحوال يبقى خيار السلام مطروحًا.
مع ملاحظة أنَّ الإسلام الذي دعانا لقبول السلام عن قوة، وحذَّرنا من استجدائه إن رفضه الآخرون، ووجَّهنا بهديه إن أصرَّ عدونا على قتالنا أن نقاتله متوكلين على الله ، وإن كان تسليحنا أقلَّ منه؛ ولذا يقول : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[ البقرة 249] { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[ الأنفال65] ، فقوة الإيمان والثقة في نصر الله أقوى بكثير من قوة السلاح، وإنَّ الأسلحة مهما تطورت دون إيمان يحمله من يقف خلفها بربه و بعدالة قضيته، وثقته في نصر خالقه لا تحقق نصرًا ولا تحسم قضية، ولنا في بدر وحنين العبرة والعظة، ففي بدر كنا الأقل عددًا وتسليحًا فلما فرضت علي المسلمين الحرب دخولها اعتمادًا على نصر الله، وبذلوا ما في وسعهم تحقق لهم النصر المظفر على عدوهم، وفي حنين كانت أسباب النصر حليفتنا، ولكن الاعتماد على القوة أضعف موقف المسلمين، والمسلمون أُمَّة اعتبار واتعاظ ؛ فليعتبروا بالتاريخ العسكري لأمتهم منذ عهد نبيهم إلى وقتنا هذا؛ لتكون اختياراتهم صحيحة امتثالًا لقول ربنا: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[ الحشر:2].
فلنعتبر بأهل خيبر حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، فلا نخرب بيوتنا ودولنا بأيدينا، كفى الله أمتينا شر الحروب، ومتعهما بالقوة والمنعة التي تخيف عدوهم؛ فلا يقدم على قتالنا؛ لنحيا سلامًا مشرِّفًا، وإذا فرضت علينا الحرب كنا لها وكان النصر حليفنا والخذلان لأعدائنا.
حفظ الله بلاد العرب والمسلمين وردَّ كيد الكائدين ومكر الماكرين، وثبت إخواننا في فلسطين، ونصرهم على إخوان الشياطين. ***