الأحد 29 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

صيانةُ أعراضِ الناس، واحترامُ حرماتِهم من المفاخر والمناقب التي يتحلى بها أصحاب المروءة.

أما انتهاكها بالقول ،أو الفعل ، أو النظر أو غيرها من صور الاعتداء، فهو عارٌ ومنقصة، ومذمَّة.

  لذا يفتخرعنترةُ بكونِه رجلا يصون حرمة جارته، ويغضُّ بصره مدةَ ظُهورها: طالت أم قصرت، حتى يستُرها مسكنُها.

   يفعل ذلك لأنه أصيل شريف ذو مروءة، يكبح زمام نفسِه، ويخالف هواها فيقول:  

وأغضُّ طرْفِي ما بــدتْ جارتي * حتى يُوارِي جارتي مــأواها

إني امرؤٌ سمْحُ الخليقةِ ماجــدٌ * لا أُتْبِعُ النفس اللجوجَ هواهَا 

  ثم جاء الإسلام بتحريم الأعراض وضرورة صيانتها من كل ما يخدُش الحياء، ويجرح الكرامة، ووضع لذلك حدودا وتشريعاتٍ تحول دون التجرُّؤ على حرمات الناس، أو أن تُتْرَك ألْسنة السوء تنهش أعراض الشرفاء؛ لقساوة ذلك ومرارته على النفوس الحرة الطاهرة. 

 والعِرْضُ يشمل كل ما يُمْتدَحُ به الإنسانُ أو يذمُّ في نفسه، أو سلفه، أو خلَفِه، أو حاشيتِه من: جسدٍ، أو نفْسٍ، أو حسَبٍ، أو شرف.

 جاء الإسلام فأكد على أن أعراض الناسِ من المُحرَّمَاتِ المُعظمة عند الله، وأن حرمتَها كحرمة يوم عرفة في البلد الحرام في الشهر الحرام .

  ليس هذا فحسب، بل جعل الإسلامُ عِرْضَ أيِّ فرد بالمجتمع عرضا للمجتمع كلِّه، بما يعني أن المجتمعَ كلُّه مطالبٌ بالدفاع عن عرض الفرد الواحد وحفظه وصيانته.

  ويجعل الفردَ الواحدَ مطالبا بالدفاع عن أعراض المجتمع كلِّه، وحفظها وصيانتها، ويجعل الاعتداء على عرض الفرد الواحد اعتداءً على المجتمع بأسره .

   وهذه المعانى دلَّتْ عليها إضافةُ الأعراض إلى ضمير المخاطبين في:" أَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " الذي ورد في خطبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بحَجَّةِ الوداع حيث يقول:

"أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ.    

  قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ.

  قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ.

  قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا.

  أَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ " صحيح البخاري/1739   

  أعلنها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الذي عانى وصهرُه أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ قسوةَ أن يُطْعَنَ المرء في عرضه وشرفه،  عندما اتُّهِمتْ ابنتُه الطاهرةُ المُطهَّرةُ، الكريمةُ المكرَّمةُ، زوجُ رسولِ الله ـ صلى الله صلى الله عليه وسلم ـ بمقولةٍ أشاعها رأس النفاق، وزلَّتْ أقدامُ بعضِ المسلمين فتناقلوها .

  عانى قسوتَها أبو بكر الصديق، حتى قال وقلبه يفيض حسرة ومرارة وألما:" والله ما رُمِينا به في الجاهلية، أفنُرْمَى به في الإسلام ؟؟!!

عانت قسوتَها الطاهرةُ المُطهَّرة، الكريمةُ المكرمة، وهي في بيت أبيها الصديق يعتصرُها الألمُ، ويطحنُها المرض، وتسأل أمَّها في طهر وبَرَاءةٍ قائلة:

  يا أماه: أوَ عَلِمَ رسولُ الله بذلك؟ تقول لها: بلى .

  يا أماه: أوَ علم أبي بذلك؟ تقول أمُّها: بلى.

  يا أماه: أوَ تحدَّثَ الناسُ بذلك؟ تقول أمها بلى. 

 وتنام ـ رضي الله عنها ـ في فراشها، ويذهب إليها زوجُها نبيُّ الرحمة، ويجلس إلى جوارها، وهو يتألم آلاما تنوء بحملها الجبالُ الراسيات.

 ويقول يا عائشة: لقد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئُكِ الله عز وجل، وإن كنت أذنبت فاستغفري الله وتوبي إليه .

  فتنظر الطاهرة المطهرة إلى أبيها وهي تبكي وتقول: أجب رسول الله يا أبي، فيقول الصديق: والله ما أجد ما أقول لرسول الله . 

 وتنظر إلى أمها وتقول: يا أماه، أجيبي رسولَ الله، فتقول: والله ما أجد ما أجيب به. 

  فتقول السيدة عائشة، والله ما أجد لكم مثلا إلا ما قال أبو يوسف :"فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ" سورة يوسف/18

  تقول رضى الله عنها: فوالله ما خرج من البيت أحدٌ إلا ونزلَ الوحي على رسول الله، فلما سُرِّيَ عنه، أقبل وهو يضحك ويقول لي: أبشري يا عائشة، فلقد برَّأَكِ الله.

  فتقول أمُّها اشكري رسولَ الله، فتقول: والله لا أشكرإلا الله عز وجل .

  لقد أعلنت السماء طهارتَها بقول الحق:

 " إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ . لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ . لَّوۡلَا جَآءُو عَلَيۡهِ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَۚ فَإِذۡ لَمۡ يَأۡتُواْ بِٱلشُّهَدَآءِ فَأُوْلَٰٓئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ . وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ لَمَسَّكُمۡ فِي مَآ أَفَضۡتُمۡ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ . وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ. يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثۡلِهِۦٓ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ " سورة النور/11: 17

 والإفك: الكذب والبهتان يفْجَأُ الناس، وهو ما اختلقه المنافقون لإحداث فتنة، وراج عند نفر من سذج المسلمين .

  ومقتضى الآيات: أنه لا ينبغي أن يُصدِّقَ مؤمنٌ على أحدٍ قولَ عائب ولا طاعن دون برهان.

   وأنه إذا نُسب سوءٌ إلى من عُرف بالخير فعلى الناسِ أن يجعلوه في دائرة الإفك والبهتان، حتى يأتي مختلقوه ببرهان.

  وفيها تأكيدٌ على ضرورة أن يُنزِّهَ المرْءُ نفسه عن الخوض في مثل هذا البهتان، وتوبيخٌ على السكوت عليه وعدم إنكاره.

  لذا جاء الإسلام فشرع الزواج، وحرم الزنا ووضع له حدا. 

 وامتدح الحياء والحشمة وذم التبذل والصفاقة وحرم الغيبة. 

 لَعَنَ الذين يقذفون الغافلات والغافلين بالسوء ووضع لهم حدا. 

 كل ذلك حتى تبقى حُرْمَةُ الأعراض معظَّمة مصانةً محترمة كحرمة يوم عرفة في الشهر الحرام بالبلد الحرام.

 حفظنا الله وإياكم ومن كل مكروه وسوء ، وأحسن إلى أمهاتنا وآبائنا كما أحسنوا إلينا .

 وصان مصرنا، وبارك أرضها وشعبها، وحفظ جيشها، ووفق قادتها لما فيه خير البلاد والعباد .

تم نسخ الرابط