إن لكل أمة من الأمم تراثا يفخر به أبناؤها، ويعتز به رجالها، وهذا التراث الذي يمثل كنوزا لأحفاد الأقدمين، ما حفظه لهم إلا تلك الكتب التي تعد أوعية ذهبية لا تقدر بثمن؛ حيث سُجلت فيها الأمجاد والعلوم والفنون ومختلف الثقافات.
وما أروع أن تكون جملة " اقرأ.. في البدء كان الكلمة" شعارا لمعرِض القاهرة الدولي للكتاب لهذا العام 2025؛ إيمانا واعترافا بأن القراءة تعد السبيل الوحيد لاستخراج يواقيت المعرفة، ودرر المعلومات، ولآلئ العلم والثقافة من هذه الكتب التي تعد خير شاهد على حضارات الأمم ورقيها.
ولقد اعتنى الإسلام بالقراءة عناية بالغة؛ إذ كان قوله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " أول وحي تشرفت بنزوله مكة على قلب النبي الأكرم محمد - صلى الله عليه و سلم- وفي هذا أجلى دلالة على عناية الإسلام بالعلم ، ووسيلته القراءة.
من ذلك أيضا أن أول حملة سجلها التاريخ لمحو الأمية ، والارتقاء بالناس من غياهب الجهل إلى فسحة العلم والنور هي التي قام بها نبينا المصطفى صلوات ربي وتسليماته عليه حين جعل لكل من عجز عن دفع الفدية من أسرى بدر أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة وبذلك يفدى نفسه ويصبح حرا طليقا.
وثمة سؤال هنا يطرح نفسه:
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا، وقد أزال الأمية عن أصحابها؟
والجواب يقول بأن الأمية المقصودة كانت قمة الإعجاز العلمي العقلي الذي أيدى الله به نبيه المصطفى ، يقول أحد العلماء : " إن الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان، لأنه لما حصل له من المعرفة ، وسداد العقل : ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينة من أمره ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين؛ صارت أميته آية على كون ما حصل له ، إنما هو من فيوضات إلهية "
ويقول القاضي عياض: (ليست المعجزة مجرد كونه أميًا، فإن المعجزة حاصلة بكونه صلى الله عليه وسلم كان أولا كذلك، ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون).
وكذلك يقول الفخر الرازي في تفسيره: (أجل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأشرفها أنه كان رجلاً أميًا)
إذا فلا تعارض بين كونه صلى الله عليه وسلم أميا، وبين ما قام به من تعليم أمته وإزالة الأمية عنهم ، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أبلغ العرب وأفصحهم مما يفوق علم المتعلمين، وفصاحة المتكلمين، فأميته كانت قمة الإعجاز مصداقا لقوله تعالى(وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)
إن أصحاب الهمم العالية في القراءة والعلم كتب الله لهم أجل المنازل وأعلاها، قال تعالى في شأن العلماء:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" ومن أصحاب هذه الهمم العالية زيد بن ثابت الذي تعلم السريانية في سبعة عشر يوما، فأخذ يقرأ ويكتب ويترجم، حتى أجادها إجادة تامة بإتقان في هذه المدة الوجيزة؛ مما أهله لأن يتوج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفرضُ أُمَّتِي زيدُ بنُ ثابتٍ» وأن يصطفيه ، ويقدمه على كبار الصحابة رضوان الله عليهم؛ حتى صار كاتبا للوحي، ومترجما للرسائل، وجامعا للقرآن الكريم.
إن القراءة تحقق متعة لصاحبها، ولذة لا تعادلها لذة، فلقد ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن الخليفة العباسي المأمون قال:" لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال" يعني كتبهم التي دونوا فيها علومهم وأفكارهم.
ورُوي أن ابن المبارك كان يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تستوحش ؟ فقال:" كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟" يعني يقرأ سيرهم ويتأملها ويدارسها.
وقال ألبرت آينشتاين: "إذا أراد المرء لأطفاله أن يكونوا أذكياء، فعليه أن يقرأ لهم الحكايات، وإن كان يريدهم أن يكونوا أكثر ذكاء، فعليه أن يقرأ لهم الكثير من الحكايات"
من أجل ذلك استحق الكتابُ أن يوصف بأنه خير جليس، وأوفى صديق، ولله در أمير الشعراء شوقي حين قال:
أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لى وافيا إلا الكتابا
صاحب إن عبته أو لم تعب ليس بالواجد للصاحب عابا
إن في مطالعة الكتب فوائدَ جمة، ومنافعَ عامة ؛ فالقارئ وحده هو من يغوص في أعماق الكتب، فيستخرج منها الدرر واليواقيت من خلال تنقيبه في أسرار النصوص المكتوبة.
وحري بنا أن نعلم ان من معايير الحكم على ذكاء الناس وثقافتهم مطالعةَ الكتب والاستفادة بما فيها، فلقد سئل أرسطو: كيف يمكنك أن تحكم على شخص؟ فأجاب: أقوم بسؤاله كم كتابا يقرأ؟ وما الذي يقرأ؟
فلولا الكتب ما وصل إلينا ما أنجزه أسلافنا من علوم ومعارفَ ولبدأنا من نقطة الصفر؛ من أجل ذلك يتوجب علينا أن نعتنى بالكتب وأن نعيد إليها مكانتها التي تراجعت إلى حد ما في الفترة الأخيرة .
ولعل من أبرز ما يعين على الثقافة والاطلاع في عصرنا الحالي معرضَ القاهرةِ الدولي للكتاب الذي اعتبر في العام 2006 أنه ثاني أكبر معرض بعد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب.
ويستهدف هذا المعرِضُ العظيم إتاحة ألاف الكتب لناشرين من جنسيات مختلفة أمام القراء؛ مما يسهم في تنمية الثقافة والمعرفة لديهم.
وعلينا نحن أن نغرس في أطفالنا حبَّ القراءة، واقتناء الكتب التي يُنتفع بما فيها من كنوز المعرفة، يقول عباس محمود العقاد:" يقول المرشدون للمرء: اقرأ ما يحقق لك النفع، وأنا أقول له: بل عليه أن ينتفع بما يقرأ"
وعليه فإن الأمة التي تقرأ هي الأمة التي تسود وتقود وتنهض وتزدهر