ads
الخميس 30 يناير 2025
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

جاء شهر يونيو وبدأت ثمار فاكهة الصيف تبدو ناضجة فوق أشجارها تتأهب لتلك الأيادي التي تقطفها .
فى مثل هذا الوقت من كل عام تتهيئ فتيات القرية الصغيرة لأن تقومن بتلك المهمة .

فتيات فى أعمار صغيرة لم تتخط أدوار الطفولة لم يتجاوزن السادسة عشرة عامًا في الأغلب .
كلهن في مراحل تعليم مختلفة تجمعهن مدرسة القرية الفقيرة .
فكل أرجاء تلك القرية ترتسم بملامح الشقاء والعيش العسير .
يتأهبن الفتيات للخروج مبكرًا صباح يوم الحادى عشر من يونيو من عام ٢٠١٨ .

التقين معًا عند حافة جدول مياه صغير في انتظار سيارة  تقلهن إلى إحدى مزارع الفاكهة لكى يقمن بقطف الثمرات من أشجارها .

لم تكن تعلمن أن هناك من سيكون سببًا في قطف أعمارهن دون أن تنضج كثمرات الفاكهة .

أنتم تعلمون فتيات الريف عندما يتجمعن عند الصباح الباكر ثم يستقلن سيارة أجرة تقلهن إلى الحقول أو الحدائق .

تعلمون كيف تنطلق الضحكات منهن بمجرد أن تنطلق السيارة .. أنها ضحكات العذارى وما أروعها من ضحكات ..
إنها النقاء الذي لم تقترب منه شوائب الحياة .
تنبعث من افواهن البريئة الأغنيات الريفية المتوارثة عن امهاتهن وجداتهن .
تلك هى سمات الأنفس الطيبة عندما يتشبث أصحابها بالحياة وهم على هامشها .
تلك هى سمات الأنفس الراضية عندما تلوذ بالضحكات وهم على قيد البؤس .

انطلق السائق بالفتيات بسيارته ال " ربع نقل" .
السيارة تشق الطريق نحو مزرعة الفاكهة المقصودة والضحكات والأغنيات تتصاعدن من صندوق السيارة تداعب الشمس الساطعة وهواء الصيف يأبى إلا أن يمتزج أثيره بأصوات فتيات لا بد أنهن على موعد مع عصافير الجنة يغردن معًا، يشجيان معًا . ثلاثية عظيمة تلوح في الأفق .. الشمس والهواء والغناء .
تلك الثلاثية ستنصهر بأجواء الخلود فى هذا اليوم .

عند منتصف الطريق تعطلت السيارة فما كان من قائدها إلا أن هاتف زميلاً له وطلب منه أن يأتي بسيارته إلى المكان الذى توقفت عنده سيارته المعطلة لاستكمال الطريق إلى مزرعة الفاكهة .
بعد ما يقرب من نصف ساعة حضر السائق بسيارته ال" ميكروباص" وبدأت الفتيات يستقلن تلك السيارة بدلًا من السيارة التي تعطلت بهن وكأن من بينهن شقيقة السائق وفتاة كان يرغب في التقدم لخطبتها .
لم تمر عدة دقائق حتى بدا على السائق أنه غير متزن ، يقود السيارة بسرعة جنونية على طريق صغير غير ممهد ومعد لاتجاهين مثل كل الطرق التي تربط بين القرى .

الفتيات يرجون السائق في فزع أن يكف عن رعونته دون جدوى وبدا يترنح بالسيارة يمينًا ويسارًا يتراقص بها . تقول إحدى الفتيات أنه أراد أن يستعرض مهارته أمام من يريد خطبتها .
انطلقت الصرخات من الفتيات لا سيما وأنه كان على وشك أن ينقلب إلى الترعة الموازية للطريق أكثر من مرة مما أحدث الرعب في قلب الفتيات وشعرن بأن أجلهن قد اقترب على يد هذا الموتور .
أخذن في الصراخ ومن بينهن يستصرخانه أن يكف عن هذا الجنون  بعد أن نجين من السقوط بمعجزة وحدثت اصابات بهن من أثر الارتطام ببعضهن لكن السائق يأبى إلا  أن يستمر في رحلة الموت وبدأ بالفعل أنه يغامر مغامرته الأخيرة عند الانحراف بالسيارة يمينًا ويسارًا . ها كان يهدف لأن يلفت نظر إحداهن .. هل كان متعاطيًا جرعة مخدر افقدته الصواب .
ربما كان هذا أو ذاك لكن الشىء المؤكد أن الشيطان كان قد تزين له في هذا اليوم وأعد له عدته فقبلها ثم صار أحمقًا لا تردعه صرخات من استبد بهن الخوف ولا توسلات من تمكن منهن الضعف ولا نداءات من ضمير موجوع لفتيات كن آخر ما وُهبت لهن الحياة وأول من يغادرنها .

بعد عدة دقائق سقطت السيارة فى ترعة " الحاجر" بالفتيات الثمانية عشرة .

صارعن الموت فمنهن من استطاع التشبث بالحياة وكن عشر فتيات وأما الثماني الأخريات فقد لقين حتفهن غرقًا بعدما ذقن مرارة الموت عشرات المرات ليستقر بهن الحال هنا غرقى بين ضفاف سيارة الموت الذى نجا صاحبها من الموت..!

احتضن الموت تلك الأجساد الرقيقة التي لم تذقن طعماً للحياة .

ولدن في شقاء ورحلن عن هذا العالم غرقى ..!

لماذا تُكتب سطور مأساوية كتلك السطور.. لماذا يكون الموت أحيانًا بتلك القسوة ولماذا يكون الشقاء قدرًا على بعض بني البشر  ..!

عند مطالعة الأوراق تبين أن الفتيات التي قضين نحبهن تتراوح اعمارهن بين الثلاثة عشرة والسادسة عشرة وأن من بين أسمائهن تلك الأسماء:
فرحة..
زهرة..
نورهان..
شروق ..
رحمة.. !

أى نصيب هذا الذى حملنهن من أسمائهن إلا أن تكون هى رحمة الله ولا غيرها..!
من التحقيقات ثبت أن السائق كان متعاطيًا لمخدر الحشيش وأنه قد طلب من الفتيات أكثر من مرة أن يتلون الشهادة وأن شقيقته وخطيبته كن من بين الفتيات وقد توفيت شقيقته .

لقد كانت الفتيات تتأهبن لقطف ثمار الفاكهة فكان أن تسبب هذا الموتور في قطف أرواحهن .
عند المحاكمة لم تر المحكمة أن تأخذ المتهم بأى قسطٍ من الرأفة و قضت بمعاقبته بالسجن المشدد لمدة ثلاث سنوات وتغريمه عشرة آلاف جنيه عن تهمة تعاطي المخدر وحبسه مع الشغل لمدة سبع سنوات عن تهمة القتل والإصابة الخطأ .

لقد ماتت فرحة قبل أن تعلم شىء عن الفرح وماتت زهرة قبل أن تتفتح أوراقها إلى الشمس وماتت نورهان تحت ظلمة مياه ضحلة وماتت شروق دون أن تشرق .
وماتت رحمة لكن رحمة الله بقيت تظلهن جميعًا...!

تم نسخ الرابط