دعني أقول لك بفقه الدارس ووعي الفاقه وإدراك القارئ: أن التصوف باب خطير جدا على الدين، وإذا دخله المرء دون أن يتسلح فيه بالشرع والتزام المنهج القويم من الكتاب والسنة، فسوف يكون عرضة للضلال والغي، تتناوشه الفتن من كل جانب، وتسلخه عن الطريق القويم، تحت دعاوى خادعة براقة تزين له الباطل وتجعل منه الحق، حتى ولو خالف الكتاب والسنة، بنصهما الظاهر الصريح.
وتحت خدعة الولاية، وعلم الباطن والتعامل بالرموز التي لا يفقهها حسب زعمهم إلا الأولياء، يتم تمرير كل إفك وزيف وزور.
ولهذا أعلنها الجنيد قديما حينما قال: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة" وقال غيره من أئمة التصوف السني الملتزم بمثل هذه الأقوال التي أكدوا فيها على ضرورة التزام منهجية الكتاب والسنة، وكثرة تأكيدهم هذه دلالة كبيرة على ما قلته ابتداء من أن التصوف طريق وعر على قدر ما فيه من معالم الرشد والهداية، ففيه كثير من موارد الضلال والغواية.
ولعل من أكثر المعالم التي تسوق إلى الضلال في طريق التصوف التزام البعض منهم بالمنهج الباطني في تفسير القرآن، وهو منهج باطل والقائلون به والأخذون بسبله لا يعظمون الشرع ولا يوقرون القرآن، إذ هم يصرون على تحدي الآيات والنصوص المباركات والقول بخلاف ظاهرها وصريحها، محتجين بأن هناك معنى خفي لا يلوح في الأفق ولا يدركه إلا أهل الأسرار وأصحاب الكشف.
لقد قالوا : للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه: باطنه دون ظاهره.
ولعل منهجية التأمل والتفكر في القرآن الكريم ووجود أسرار ومعان وإشارات تقف خلف اللفظ، لهو مما يحمد ويعمل به ويكون أحيانا مقبولا وذلك إذا كان في ضوء الشرع نفسه ولا يخرج عن حكم النصوص من القرآن والسنة، لكن البعض قد تمادى وتجاوز الحد في إبراز معان متعددة لا سند لها من كتاب الله ورسوله إن لم تكن على خلافهما.
إن تفسير كتاب الله لا يجب أبدا أن يخرج عن القرآن نفسه، ولا تفسير من نزل عليه صلى الله عليه وسلم.
ومن عجائب تفسير الباطنية للقرآن الكريم هو إصرارهم على أن الكافر المقطوع بكفره وضلاله ودخوله النار مرحوم من أهل الجنة والمغفور لهم.
نعم ففي الوقت الذي يعلنها القرآن صريحة بكفر كافر واستحقاقه للعذاب، تأتي الباطنية بمنهجهم المنحرف لتجعل من هذا الملعون منعما مغفورا له.. تفسيرات عجيبة غريبة، ولدينا مثال في الزمن القديم والزمن الحديث، فقديما أصر ابن عربي على أن فرعون مرحوم مغفور له صرح بذلك في أهم كتابين صنفهما وهما (الفتوحات المكية) و(فصوص الحكم)
فها هو يقولفي سياق كلامه عن إيمان فرعون في الفتوحات المكية: (فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصية، فقبض على أفضل عمل، وهو التلفُّظ بالإيمان، كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله، والأعمال بالخواتم، فلم يزل الايمان بالله يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية، فلم يدخلها قط كبرياء)
ويقول: (فقد شهد الله لفرعون بالإيمان، وما كان الله ليشهَدَ لأحدٍ بالصِّدق في توحيدِه إلا ويجازيه به، وبعد إيمانه فما عصى، فقبله الله إن كان قبله طاهرًا، والكافر إذا أسلم وجب عليه أن يغتسل، فكان غرقُه غسلًا له وتطهيرًا)
ويقول أيضًا: (فآمن فرعون وتذكر وخشي كما أخبر الله، وأثر فيه لين قول موسى وهارون، ووقع الترجي الإلهي كما أخبر، فهذا يدلك على قبول إيمانه؛ لأنه لم ينص إلا على ترجي التذكر والخشية)
ويقول أيضًا: (فآداب الأولياء آداب الأرواح الملكية، ألا ترى إلى جبريل يأخذ حال البحر فيلقمه في فم فرعون حتى لا يتلفظ بالتوحيد، ويسابقه مسابقة غيرة على جناب الحق مع علمه بأنه قد علم أنه لا إله إلا الله؟! وغلبه فرعون فإنه قال كلمة التوحيد بلسانه كما أخبر الله تعالى عنه في الكتاب العزيز)
ولم يظل ابن عربي وحيدا في هذا فقد سار خلفه وأيده ونصره جمع من أتباعه وأضرابه وآمنوا بقوله...
بينما أنت لا تجد من المتصوفة في زماننا من يؤمنون بهذا أو يقولون به بل يعترضون عليه، فهل قاله الشعراوي وهو يفسر آيات الله؟ أبدا لقد كان الرجل ملتزما بالكتاب والسنة بعيد عن هذا الشط، وتفسيرة بعيد عن المنهج الباطني الفاسد، وفريق ثالث أراد أن يمسك العصا من المنتصف ليقول: إن للشيخ ابن عربي إشارات لا يفهمها أي أحد وكان من الخطأ إعلانها على العامة، وأنا لا أعرف أي عامة في هذا الهراء وقد رده وخالفه وانتقده مشائخ الإسلام الكبار، وأجلوا فساد ما قال وأظهر.
كان هذا في الزمن القديم، أما الزمن الحديث فقد ظهر اليوم فينا شيخ صوفي آخر، طلع علينا بنفس منهج ابن عربي في الترحم على الكفرة المارقين من المشركين أعداء التوحيد، فحكم بوجوب الجنة لليهود والنصارى والصابئة، وقد حدثني شيخي الدكتور النبوي شعلان: أن شبيها بهذا الشيخ قال أمامه نفس الكلام وهو غاية التفسير الباطني الأعوج حينما فقد قال: "ليس معقولا أن يحكم الله على اليهود والنصارى بالنار، فهم خلقه الذي تعب في خلقهم ولن يعذبهم رحمة بهم، يمكن له أن يؤدبهم، لكن أن يخلدهم في النار فلن يكون"
وهذا الكلام الأخرق يخالف صريح المنقول، ومن المثير والعجيب المذهل أن يخرج من أستاذ في الأزهر يتردد صوته في إذاعة القرآن الكريم.. لكن الضلال لا يميز أحدا ولا تضبطه الشهادات، بل هو هداية من الله أو عماية من النفس فنسأل الله السلامة.
إن التفسير الباطني يزحف اليوم ليفسد عقيدة الناس ويشككها في ثوابت الدين ويزين لها الكفر والانحلال حتى لا تعبأ بالإيمان والالتزام، فإذا كان فرعون مقطوع له بالجنة والايمان، وكان اليهود والنصارى والصابئة من أهل الجنة، فكيف بالمسلم إذن الذي يوحد الله، يكفيه للجنة أن يؤمن بلسانه ولا داع لأني يقوم بما يملي عليه الإسلام من تكاليف وواجبات، وهكذا ينتهي الدين في قلوب العباد، ويفرط الناس في حق خالقهم سبحانه.!!