أعترف أن أكثر طائفة أبغضهم ولا أحبهم ولا أنسجم معهم، أولئك الذين يعشقون اللوم والتأنيب، ولا يفسحون الطريق للتسامح والتغافل والنسيان والتعمية عن كثير من الأخطاء والهنات.
أكثر ما يفسد علاقتي بك أن تكون من أهل اللوم وعشاق التقريع، إنها صفة لا تبقي في نفسي إليك أي مودة أو قربى أو وصال.
إنني أفر من أصحاب هذه الطباع فرار السليم من الأجرب.
وإذا أردت أن تتسع معك دائرة اعترافي فأقول لك:
إن المرأة قد تكون في عيني فاتنة جميلة، ولكن هذا الجمال يتبدد في روعي ويتحول هو وصاحبته إلى كابوس مزعج لا أطيقه ولا أتحمله إذا كانت لوامة أنابة.. إنني ألعن هذا الجمال ولا تستطيع صاحبته أن يكون لها في قلبي مكان أو إعجاب.
وعلى العكس ما أروع المرأة حينما تتجمل بالصفح والعفو والتغافل، ما أذكاها حينما عرفت المعنى الحقيقي لجمال المرأة.!
قد أكون مخطئا لكن اللوم عندي خطيئة.. أرجوك لا تلمني.
أنا ممن يكرهون اللوم جدًا، خاصة إذا كان من أمامي يعرف شعوري بالخطأ وإحساسي بالتقصير، ومع هذا يمعن ولا يكف عن تقريعي بلومه.
هل يمكن لي أن أصارحك، بأن هذه النوعية من الناس مريضة بعقدة نفسية.. إذا جاءتهم فرصة لينفسوا فيها عن عقدتهم، فإنهم لا يتأخرون ولا يتوانون، بل يسارعون لاغتنامها وإعادتها وترديدها، وربما يعيشون عليها يومًا أو يومين او شهرًا أو عامًا، فقد تعودوا تصيد الأخطاء واللوم عليها لأن هذا العمل يداوي في دواخلهم شعورا مرا بالنقص.
إنه المعنى الكبير الذي فظن إليه الشاعر العربي في قوله:
وكنتُ إذا الصَّديقُ أراد غيظي
وأشرفني على حنق بريقي
غفرتُ ذنوبهُ وصفحتُ عنهُ
مخافةَ أن أعيش بلا صديقِ
أذكر وأنا صغير وفي حديقة بيتنا، وكان لي عم أكبر من والدي يمتهن الفلاحة، وكنت وإخوتي نذهب معه لنعاونه في الحقل، وكان هناك نبات يزرعه الفلاحون كثيرًا اسمه -التيل- إذا كبر يحصدونه ويجمعونه ويظل في الشمس حتى يجف ويسلخون جلدته وأليافه ويصنعون منها أحبال أو أصفاد يقيدون بها الماشية، ويستعينون به في كثير من أغراض الفلاحة.. كنت وقتها صبي صغير، ويومًا ما وجدت في حديقة البيت -علبة كبريت- فأخذت ألهو بأعوادها، وأمسك بعض القش وأشعل فيه النار، ثم أطفئه سريعا حتى لا يتفاقم أمرها.
وبينما أنا أمر على هذا –التيل- الذي كان محصولا كبيرًا، جال في خاطري أن أشعل النار في عود منه ثم أطفئه.
وما أن أشعلت طرف العود حتى وجدت النار في سرعة البرق تنتقل الطرف الآخر، وأخذت تلتهم كل المحصول في توحش وتوهج، وشبت النار عالية تنبئ عن حريق عظيم، لقد خرج الأمر من يدي وأنا واقف مذهول لا أدري ماذا حدث؟، ألهذه الدرجة يكون هذا التيل أشد اشتعالا من البنزين والجاز، ما هذا السحر العجيب؟
وجرى الناس وخرج إخوتي وأبناء عمي والجيران وانقلبت الدنيا رأسا على عقب، وأيقنت أنني سأنال عقابًا عظيمًا، وبالفعل تم العقاب، فما أن أمسك بي والدي ليلا حتى أشبعني بالعصا ضربًا لا أنساه.
لكن الغريب في الأمر.. أن عمي وهو الفلاح البسيط، لم يتكلم معي ولو بحرف واحد في الأمر، ومع كونه أكثر المتضررين وأوحدهم من الحريق الذي أفقده التيل، إلا أنه تعامل معي وكأن شيئا لم يحدث أبدًا.
كانت هذه الحادثة في الثمانينات، ومازلت أذكرها، وعلى قدر ما أذكر العقاب، اذكر تصرف هذا العم البسيط في حاله العظيم في حنانه ونفسه، فقد كان كثيرًا ما يتغافل وينسى ويحذف المنغصات من حياته.
إنه يعرف جيدًا أنني أشعر بحرج من فعلتي، ولكنه كظم غيظه حتى لا يزعجني أو يضايقني ولو بمجرد اللوم والتأنيب.
الصحفي الكبير الاستاذ جمال بدوي كان يحكي عن بداياته العملية في بلاط صاحبة الجلالة، وتدريبه في أخبار اليوم مع الاستاذ مصطفى أمين، وتحت إشراف الصحفي الكبير عبد السلام داوود، كان بدوي طالبا في الجامعة، وكلفوه أن ينقل أخبارها، وكانت هناك علاقة عاطفية معروفة بين أستاذ وطالبة، وسارع أحد أصدقاء بدوي أن يملي عليه خبر خطبتهما، وما أن نشر الخبر، حتى سارع الطرفان لتكذيبه، إذ لم تحدث أية خطوبة
وذهب أهل الفتاة إلى الأستاذ مصطفى أمين وهم غاضبون مما تسبب في حرج شديد لإدارة الصحيفة، فاضطرت إلى نشر تكذيب للنبأ.
شعر جمال بالحسرة والفشل في بداياته الصحفية، وقرر الامتناع عن الذهاب إلى أخبار اليوم حتى يتجنب ما ينتظره من لوم وتقريع.
لقد مرت عليه أيام كئيبة كان خلالها يستطلع الموقف من زملائه في الصحيفة، فكانوا يبلغونه أن هذا الموضوع لم يطرح على الإطلاق خلال الاجتماعات التي يعقدها الاستاذ عبد السلام داود، وأبلغوه أن الرجل يسأل عنه ويرجو عودته للقسم، وبالفعل شعر بدوي بنوع من الاطمئنان وعاد إلى الصحيفة يستأنف نشاطه.
وكان من المدهش أنه لم يسمع من الأستاذ داود أي إشارة للخطأ الذي تسبب فيه بدوي، والحرج الرهيب الذي سببه للجريدة .
ويوما ما قدم بدوي مجموعة أخبار للأستاذ عبد السلام فأخذ يناقشه في خبر منها ومدى مصداقيته، ولما حاول أن يدلل على سلامة الخبر، وقف الأستاذ داود ليوجه إلى تلميذه كلامًا مباشرًا عن الخبر المكذوب.
قال له: إنني واثق أنك تورطت فيها دون أن تتأكد من صحته، ربما لأنك وثقت في مصدره، أو لأنك رأيت فيه خبرًا تافها لا يستحق التمحيص.
وهذه غلطة كبرى لأن معظم النار من مستصغر الشرر، وأنت لا تتصور ما سببه هذا الخبر من هلع لأهل الفتاة مما اضطرنا إلى نشر تكذيب حتى نعالج الموقف والاعتذار عما لحق بهم من إيذاء أمام المجتمع.
قال بدوي أنا أعترف بخطأي وآثرت الهروب ولكنك ألححت في عودتي ولم تفاتحني في الموضوع إلى بعد مرور وقت طويل.
- قال داود: نعم فعلت ذلك لأنني توسمت فيه أن تكون صحفيًا مرموقًا، وكنت أعرف مدى حساسيتك المفرطة، ولو أنني تسرعت في محاسبتك ، فسوف تهرب ولن تعود، وأكون بذلك قد حرمتك من أمنيتك وطموحك، لقد آثرت التريث حتى لا أفقدك.
وأنا كذلك إذا أردت أن تفقدني صديقا فما عليك إلا أن تكثر لومي.. ساعتها لن تراني أبدا