الجمعة 20 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

عباس شومان: التخطيط الجيد ودقة التنفيذ مع التوكل على الله ضمانات النجاح

د. عباس شومان
د. عباس شومان

رغم مرور كلِّ هذه القرون فإنَّ الهجرة النبويَّة مازالت ملهمة وموجِّهة الناسَ لما فيه الخير في دنياهم وأخراهم؛ ففي كلِّ عام يردد على مسامعنا الدعاة من فوق المنابر ومن خلال النوافذ الإعلاميَّة، وفي الندوات والاحتفالات بهذه الذكرى دروسًا مستفادة من هذا الحدث العظيم الذي غيَّر وجه التاريخ، وأسس لمجتمع المسلمين الذي تمدد خلال أعوام معدودة حتى قضى على حضارات تاريخيَّة أصرت على رفض الدخول في الإسلام، ولم تكتف بذلك بل ناصبت المسلمين العداء، وإذا كانت الهجرات قد انقطت بعد فتح مكة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا» ، فإنَّ الاستفادة من حدث الهجرة لم تنقطع. 
ومن الدروس المستفادة من الهجرة: بيان أهميَّة التخطيط الجيد والتنفيذ الدقيق مع التوكل على الله -عز وجل- ضمانات النجاح لإبرام أي أمر في مجالات الحياة كافة، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- لم يركن إلى كونه مرسلًا من الله - عز وجل- وأنَّه في عنايته ورعايته، فيعلن للناس أنَّه مهاجر إلى المدينة المنورة، ولو فعل هذا لكتب لهجرته النجاح فهو مع بقية الرسل وعدهم ربُّ العالمين بالنصر والتوفيق: ﭽإِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُﭼ، ورسولنا معصوم من الناس: ﭽيَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﭼ، لكن رسولنا في هجرته و بتوجيه من ربِّه أراد أن يعلِّمنا درسًا يفيدنا في حياتنا، وهو الأخذ بأسباب النجاح وعدم التواكل، وإنما الإعداد الجيد لخطة الهجرة على أعلى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري، ثم التنفيذ الدقيق لعناصر الخطة ومراحلها كما خطط لها، ووضع خطط بديلة في حال فشل عنصر من عناصر الخطة أثناء التنفيذ، ويصاحب كلَّ هذا التوكل على الله وإدراك أنَّ أي تخطيط مهما كانت قدرات من وضعه، ليس كافيًا في تحقيق ما وضع له ما لم يصاحب التنفيذ عناية الله -عز وجل- فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كلَّ التدابير البشريَّة الممكنة لإنجاح خطته للهجرة، فقد أخفى خبرها ولم يعلن بأنَّه سيهاجر إلى المدينة المنورة في وقت محدد، كما اختار رفيقًا مأمونًا موثوقًا فيه وهو الصديق -رضي الله عنه- واستخدم التمويه الخداعي في جعل ابن عمه ينام في فراشه ليظنَّ أهل مكة أنَّه هو النائم في فراشه، بينما يبتعد هو وصاحبه في اتجاه الغار، كما اختار الوقت المناسب ،فخرج في أول الليل ليكون لديه الوقت الكافي في جنح الظلام وأثناء نوم الناس للوصول إلى النقطة الأولى وهي غار ثور قبل طلوع النهار، وبكلِّ تأكيد هذا ساعده على عدم عرقلة كفار قريش خروجَه من مكة، وهم الذين أجمعوا أمرهم على قتله دون أن يعلن أنَّه مهاجر، فماذا لو أعلن وحدد وقت خروجه؟: ﭽوَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَﭼ ، وبعد أن أخفى اعتزامه الهجرة أعد وجهَّز ما يلزم لإتمامها، من وسائل الانتقال، حيث أعدَّ الصديق ناقتين لحملهما إلى المدينة المنورة بداية من غار ثور بعد ثلاثة أيام من الخروج من مكة، وليس من مكة مباشرة حتى لا تختل خطة الاختباء في الغار، وخطة التموين التي تكفَّلت بها أسماء بنت أبي بكر، حيث أعدت ما استطاعت من طعام في بيت أبي بكر، وشقت نطاقها نصفين لربط الطعام فسميت بذات النطاقين، ثم استخدم خطة الخداع والتمويه العبقريَّة، فالمدينة على الشمال من مكة ومع ذلك توجه هو وصاحبه إلى جهة اليمين ثمانية كيلومترات حيث يوجد غار ثور؛ لأنَّه يعلم أنَّ قريشًا حين يفتقدونه سينطلقون إلى جهة الشمال في الطرق المؤدية إلى المدينة، ثم الاختباء في الغار وعدم مواصلة السير مباشرة حتى الوصول؛ لأنَّه يعلم بأنهم سينطلقون إلى المدينة على أمل اللحاق به قبل وصولها، ثم استخدم خطط التعمية والتضليل لطالبيه، وتمثل هذا في جعل عامر بن فهيرة راعي غنم الصديق يرعى الغنم على مساريهما إلى الغار في محاولة لمحو آثار أقدامهما وقدمي عبدالله بن أبي بكر، حيث كان العرب خبراء في تتبع الأثر مهما ضعف؛ ولذا استطاعوا الوصول إلى الغار مع استخدام الغنم لمحو الأثر، كما استخدم الاستخبارات وجمع المعلومات، والذي تكفَّل بها عبدالله بن أبي بكر، حيث كان ينقل أخبار قريش وما يعتزمون فعله ويقضي معهما معظم الليل ثم يعود إلى مكة قبل طلوع النهار فيصبح بين أهلها فلا يلحظ أحد غيابه، كما ضمَّت الخطة عنصرًا مهمًّا وهو السير عبر طريق غير معتاد في السفر إلى المدينة، ولكون المناطق جبليَّة صحراويَّة احتاج الأمر إلى خبير بدروب الصحارى فكان اختيار عبدالله بن أريقط غير المسلم، وكان هذا الاختيار عبقريًّا، فعبدالله كان أمينًا ما يعنيه هو الأجر الذي يأخذه، ولا تعنيه مسألة الدين أو ما بين الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة فهو مخلص لمهنته، ثم كونه غير مسلم يسهل مهمته؛ لا سيما وأنَّه سيتوجه إلى الغار بعد ثلاثة أيام يقود راحلتي النبي وصاحبه، فقد جعلهما أبو بكر عنده، وتم الاتفاق معه على أن يذهب بهما إلى الغار بعد مضي ثلاثة أيام ،ولو كان مسلمًا لشك فيه أهل مكة وتبعوه. 
وهذه الإجراءات البشريَّة التي اتخذها رسولنا وبنى عليها خطته، دعمت بتوفيق من الله صاحب خطوات إعداد الخطة و التنفيذ، كما أنها دعمت بتدخل القدرة الإلهيَّة فيما عجز عنه الفكر البشري، ومن ذلك ما حدث حين خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين نفر تربصوا بباب بيته انتظارًا لخروجه لصلاة الفجر ليقتلوه: ﭽوَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَﭼ،ولكن عناية الله تتدخل فتأخذهم سنة من النوم فيخرج من بينهم فلم يره أحد، ومن ذلك صرف أنظار قريش حين وصلوا إلى الغار فلم يخطر ببال أحدهم النظر أسفل قدميه عند الغار وهو ما كان يخشاه الصديق، حيث قال حين رآهم وصلوا إلى باب الغار: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، لكن رسولنا وقد اتخذ كلَّ التدابير الممكنة يطمئنه بأنَّ عناية الله ستنجيهما، فهدأ من روعه الذي كان بسبب خوفه على رسول الله وليس على نفسه قائلًا: ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا: ﭽإِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌﭼ.
ومن ذلك تكليف إلهي للعنكبوت بنسج خيوطه على باب الغار؛ ليظهر وكأنَّه لم يفتح من زمن بعيد، ومن الحماية الإلهيَّة التي ليست في مقدور البشر غوص أقدام فرس سراقة في الرمال عدة مرات وهو يحاول اللحاق بالرسول وصاحبه ليحصل على جائزة قريش، ولاسيما وقد رآهما بالفعل فظنَّ أنَّ الجائزة أصبحت في حوزته.
وفي هذه التدابير التي اتخذها رسولنا في خطته المحكمة لتنفيذ الهجرة النبويَّة بنجاح وهو ما تحقق بالفعل، درس بالغ لأهميَّة للقادة السياسيين والعسكريين والاقتصاديين .. وغيرهم بل لجميع الناس حتى الأفراد والأزواج، ففي المجال السياسي والعسكري يجب دراسة قدراتنا وقدرات العدو قبل الإقدام على أي مواجهة يمكن تأجيلها وإلا كان الإقدام عليها نوعًا من الانتحار، ولقد رأينا ما حدث لدول تهور قادتها مغترين بقوتهم فتسببوا في تدمير دولهم بتهورهم، وعدم دراستهم لقدراتهم وقدرات عدوهم.
كما يجب وضع الخطط المحكمة والخطط البديلة مع دقة التنفيذ، كما يجب الحذر من الاعتماد على القوة وحدها دون تخطيط جيد، ولنا في تاريخنا الإسلامي المثل فحين اغتر المسلمون بقوتهم كان الدرس قاسيًا: ﭽلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَﭼ، قبل أن تتدخل العناية الإلهيَّة بعد أن عرف المسلمون خطأهم ﭽثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَﭼ، وفي المقابل تحقق النصر المظفر للمسلمين في بدر بفضل التخطيط الجيد ودقة التنفيذ مع التوكل على الله والثقة في نصره للمسلمين: ﭽوَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَﭼ، وفي مجال الاقتصاد لا بد من دراسة الموارد المتاحة ووضع الخطط الكفيلة بتنميتها واستخدامها على أفضل وجه، وحتى في المجال الأُسَرِيِّ يجب أن تبنى الخطط المناسبة للإمكانات المتاحة، حتى يتحقق الاستقرار الأُسَرِيُّ ولا تتعثر مسيرته، وكذا التجار ورجال الأعمال والطلاب ...وغيرهم فلا نجاح من دون خطة محكمة، وتنفيذ جيد، واستعانة وتوكل على الله.

تم نسخ الرابط