في دراسة لنا منشوره في العدد ٣٤ مارس ٢٠١٤م من مجلة دراسات الشرق الأوسط ، الصادرة عن مركز دراسات وبحوث الشرق الأوسط والدراسات المستقبلية بجامعة عين شمس، تحت عنوان : (سقوط دولة البعث في العراق وتداعياته الإقليمية) أي منذ عشر سنوات ،وقد كان الحديث وقتئذ عن سقوط حدث منذ أكثر من عشر سنوات أيضا عام ٢٠٠٣م ، ولأن المقاربة والمقارنه واجبه لاستجلاء الغامض، وإتمام الناقص ، واسهاب المختصر ، واختصار المسهب، في مثل هذه الأحداث المفصلية الكبرى في التاريخ، فإن التماثل لدى الباحث المدقق يبدو جليا في هذا السقوط المدوي بين جناحي البعث في العراق ٢٠٠٣م وسوريا ديسمبر ٢٠٢٤م ، من حيث المفاجأة ، والسرعه، والانهيارات المتدحرجه للجيش والمقدرات العسكرية في البلدين على النحو التالي :
أولا :- نظام عزل نفسه عن الداخل ، وأحاط نفسه بواقع ارتباك ،واضطراب، وسياج من التخوين ، وعدم الثقه بمن حوله، وأصبح يحمل بداخله عوامل فناؤه، ومقومات التحلل والتفكك الذاتي على طريقة السرطان الزجاجي عندما يتهشم الصلب إلى حبيبات متناهية الصغر فجأة ،وفي لحظة دون أن تعرف لذلك سبب مباشر.
أسرار سقوط نظام بشار الأسد
وإنما هي مجموعة أسباب من التعفن والاختمار الفيزيائي حدثت على مدى سنوات عديده ، وهي في بعث العراق كما هي في بعث سوريا ، وجميعها معروف من:
- عدم التداول النموذجي للسلطه، وشياخة النظامين في مواقعهما ،والاعتماد على نخب ضاله ومضلله ، واحزاب شكلية لا فاعلية فيها، تسوغ للحاكم مبررات الاستمرار.
- الاستبداد، والتسلط ، والديكتاتوريه، وشيوع المظالم بين الناس، وتضخم حالة الثأر وتفشيها لدى الكثيرين من طوائف الشعب ،وأركان السلطه ما يسهل من مهمة الإسقاط، والتداعي الذاتي، والتلقائي .
- استمراء الكسل ، والراحه، والسكون والدعه، والعيش في حالة إنكار للفشل ،وتصديق الوهم ، وابتلاع الخديعه فتسير مفاصل الدولة في حالة حلحله، وخلخله، وتأكل داخلي.
- الإقتصاد يغدق فقرا في حالة العراق كما سوريا ثمة فشل ذريع في إدارة موارد الدولة، وبتعبير جيمس روبنسون وزميله: لماذا تفشل الأمم ؟ عندما يتم عزو ذلك إلى مظالم اقتصاديه تعيشها البلاد، ليكون هتافات صامتيها في المركز والأطراف:( عيش - حريه- عدالة إجتماعية) واغنياء يزدادون غنا، وفقراء يزدادون فقرا ، فلا يجد النظام من يدافع عنه من القاعده الاجتماعية العريضة، فيسهل ذلك من كل الحيل والمؤامرات التي تستهدف إسقاطه.
- قواسم مشتركة للطغيان، وعلامات بارزة على طريقة ، فمثلما قام حافظ الأسد عام ١٩٨٢م بارتكاب مجزرة حماه بحثا عن مجموعة من المعارضين الذين شقوا عصا الطاعة عليه، وبشار الأسد هو امتداد لأبيه ويحمل عنه ارث الطغيان، قام نظام صدام حسين بفعل الشئ ذاته بقصف حلبجه بالكيماوي عام ١٩٨٨م ، واعتمد بشار على سهيل الحسن في البراميل المتفجره، وصدام على علي حسن المجيد ( علي الكيماوي ).
ثانيا:- نظم تتغطرس وتتمترس خلف الأنا الضيقه المحدوده ، والشوفينيه القاتله ،وجعل من حبك المؤامرات عليه أمرا سهلا ميسورا، فمثلما وقع صدام حسين في الفخ الأمريكي بغزو الكويت ١٩٩١م وتحول الدعم الخليجي له في حربه ضد إيران على مدى ثمان سنوات من ١٩٨١م إلى عداء وترقب لسقوطه، قام نظام الأسد وأوراقه بالوقوف خلف إغتيال الكاريزما السنيه البارزه في لبنان رئيس الوزراء رفيق الحريري، ليتم إخراج سوريا من لبنان ،وينقلب السحر على الساحر وتتحول المعادله من سوريا تحكم في لبنان إلى حزب الله اللبناني يحكم في سوريا ، وفي حالتي العراق ، وسوريا وقفت إيران تنتظر قطف الثمار، وتستفيد من أخطاء النظامين ، فتدخلت في الحاله العراقيه ضد صدام ثأرا وانتقاما بتحريك الحوزات الشيعيه ،وتأليب المناطق وتوجيه تمرداتها، وشحذ همم المراجع ، والقيادات، حتى تمكنت من الدوله المنهاره مؤسساتها ، وفي الحالة السورية دعمت الطائفه العلويه، وأرسلت جماعات، وفيالق تقيم بشكل احتلالي كامل في المناطق الإستراتيجيه التي اختارتها.
ثالثا:- الخلل البنيوي في البنى والهياكل للقوه الصلبه والكتله التاريخيه الحرجه الماسكه بالتوزان والاستقرار، وقله سنيه في العراق تحكم مجتمع غالبيته من الشيعه ، وقله شيعيه في سوريا تحكم مجتمع غالبيته من السنه ، فضلا عن عقيدة القوات المسلحه والجيش ،والتي ما إن تناديها المراجع الشيعيه في العراق وقت الأزمات وانسداد الأفق تجدها وقد فكفكت نفسها بنفسها، وتتحلل من تلقاء ذاتها ، وما إن تناديها المراجع السنيه في سوريا تفعل الشئ ذاته ، فالعقيده والدوجما أمر أساسي في الحفاظ على القوة الصلبه الخشنه للدول.
رابعا:- الانحيازات الخاطئة، والاستقطابات القاتله،وعدم الإعتماد بالمطلق على النخب الأكاديمية المصقوله بالفكر، بل استهجانها، وخلق حالة من العداء معها ، الأمر الذي يكون من نتيجته عدم قراءة المستقبل وحساباته بطرق سليمه ومنطقية، عدم التعلم من التاريخ أنهم لا يتعلمون من التاريخ ،فالصوره واضحه والمشهد الدولي مقروء إلا من نظام الحكم في البلدين المخطط تأسس على الإدارة بالأزمات، وتضاريس أساسيه منها:
( تأسيس القاعده وإخراج الروس من افغانستان ١٩٧٩م - سقوط الشاه وصعود الخومينيه الراديكالية ١٩٧٩م- غزو العراق للكويت ١٩٩٠م - بدء تأسيس القيادة المركزية الوسطى في السيليه وخور العدبد ١٩٩٥م- هجمات القاعده على مصالح امريكيه في نيروبي ودار السلام ١٩٩٨م-هجمات ١١سبتمبر ٢٠٠١م- سقوط العراق ٢٠٠٣م- الفوضى الخلاقة لكوندليزا رايس، والبدء باغتيال رفيق الحريري ٢٠٠٥م- إعدام صدام حسين ٢٠٠٦م - اندلاع ثورات ضد بعض النظم العربيه منذ ٢٠١٠م- حرب السفراء بين دول مجلس التعاون الخليجي وقطر ٢٠١٤- ٢٠٢٢م- حرب طوفان الأقصى والسيوف الحديديه ٢٠٢٣م).
خامسا :- الأخطاء التاريخيه مع الجوار الإقليمي، وخلق عداءات، وحالة استنفار دائمة تصيب الجيوش بالانهاك الممنهج، والاستنزاف الذي يفضي إلى عدم القدره على المواجهة في الأوقات الحاسمه ،والضرورية، فالعراق الذي بدد قدراته العسكريه لمدة ثمان سنوات في الحرب ضد إيران من ١٩٨١ حتى ١٩٨٨م ثم يقرر فجأه العودة إلى إتفاق الجزائر الحدودي مع إيران الموقع عام ١٩٧٥م والذي على أساس من انهائها دخل الحرب أصلا ،ثم وجد نفسه فجأه كجيش وعتاد بلا عمل فقرر أن يغزو الكويت ويبتلعها والناس نيام، ودخل حرب ضد التحالف الدولي لتحريرها ١٩٩١م ، وخلق محيط من الأعداء حتى الحرب الأمريكيه عام ٢٠٠٣م وإسقاط النظام. سوريا كذلك تعيش في حالة عداء ضد لبنان عدا حزب الله، ثم العراق بأيديولوجيات حكامه الجدد ،ثم تركيا والتعالي على نظام حكمها حول إتفاق الاستانه، فضلا عن المملكه العربيه السعوديه ، والعداء القائم ضد إسرائيل، كل ذلك جعل الدوله مستنفره طول الوقت ،ومطلوب منها مواجهة أكثر من عدو والتعامل مع سيناريوهات مرهقه في ظل وجود فصائل عديده قررت الإتحاد لإسقاط نظام الحكم .
سادسا:- الإقليمية الهشه بالأصل والأساس كانت سببا ونتيحة لسقوط دولة البعث في البعث في العراق كما في سوريا، فما انت تفرغ الجماعات والدول التي تقف وراء ذلك من جهادها الأصغر حتى تقع في أتون جهادها الأكبر ، أي مرحلة ما بعد السقوط،وهنا هي البداية الحقيقيه للنكبة والكوارث عندما تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فالعراق تم تقسيمه وتجزئته وعانى، ولازال يعاني من القتل والهدم والتفجير،والتدمير، على مدى أكثر من عشرين عاما ،ولم تحسم خياراته بعد ،ودخل في حقل تجارب للمعارضين الحكام من اياد علاوي إلى نوري المالكي ، وغيرهما، فضلا عن استقلال المراجع بجهوياتهم، ومناطقهم في شبه حكم ذاتي فيما عودة الدولة المركزيه ومؤسساتها الجامعه لا تزال حلم صعب المنال ، الحال نفسه في سوريا ،دفع فاتورة ما بعد إسقاط بشار الأسد ستبقى عملية طويلة وممتده وشديدة التعقيد ،تركيا فعلت ما فعلت للحفاظ على مكتسباتها هناك، وقدمت دعما لوجيستيا لا محدود لبلوغ هذا الهدف ، إيران لابد وأنها لن تفرط بسهوله ستعيد الكره وتبحث عن جعل جديد في سوريا ، روسيا والولايات المتحده ثمة تفاهمات بينهما تبرر هذا الصمت الروسي والترك والتخلي والانهيارات المتدحرجه للمدن السورية، حتى العاصمه دمشق ، لبنان وحزب الله، الدول الكبرى مثل السعوديه ، مصر لكل حسبته الإستراتيجيه في قادم المستقبل لسوريا.
سابعا: الجماعات المسلحة الراديكالية تعرف كيف تشعل الحروب وتفجر الدول من الداخل ، لكن لا تعرف أبدا كيف توقف نزيفها، لم تتمرس على قيادة الدول، وحكمها والتعامل مع معطيات الحداثه وأليات العولمه، تقف في حالة عجز تام والصورة نفسها تتكرر بنفس الجداره والكفاءه من تونس إلى ليبيا إلى اليمن إلى العراق إلى سوريا بحيث تجد مايلي:-
- التظاهر بالديمقراطية والتعددية، وقبول الأخر،وعند أول استحقاق يدجنون العمليه الإنتخابية بتصوراتهم العنيفه مثلما اعترف راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس قائلا: (لم نكن مؤهلين لقيادة الدوله) .
- عدم القدره على الاندماج الضروره مع مؤسسات المال العالميه مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجاره العالميه ،وترى أن دورة المال وفق هذه المنظومه لا تتماشى مع المعاملات الإسلاميه، وإن فعلت ذلك على مضض تخشى السقوط في نظر رعاياها.
- المجتمع الدولي له أساليبه في إدارة الشأن العام في الطقوس ، والممارسات ،والتحول من حالة البداوة والمحافظة إلى التمدن والعصرنه وهي عمليه تبدو مستحيله فتحدث البريزماتيه أي حالة الانحشار بين جديد غير قادر على الاقتحام، وقديم لا يسمح لغيره بالسيادة على مقدراته.
- وول ستريت والمجمع الصناعي الأميركي، ومركز العولمه في العالم حيث الأبحاث، والمخابرات، والمافيا، ومبيعات السلاح، وحكومة العالم الخفيه، والنظم التي تراوغ في قبولة الهيمنه يتم ملاحقتها وازاحتها، وهذه الجماعات مهما تظاهرت ،وسلمت نفسها لبيوتات الخبره لتعلمها، وتدربها في النهايه لا تستطيع الإستمرار، تتمرد، وترفض، وتنتهي
ولازال موضوع سوريا أمامها السنوات العجاف ومفتوح على كافة الاحتمالات...!!!!