الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 

تنويه: العبارات ما بين قوسين ستكون حرفياً من كتاب "حديث المبادرة" للأستاذ محمد حسنين هيكل .

لا يساورني شك في حقيقة مفادها أن من استوعب دروس التاريخ فقد أوجد لنفسه مفاتيح قراءة الحاضر بل و قراءة المستقبل أيضاً .

التاريخ عبارة عن حلقات متصلة حتى ولو باعدت الحقب فيما بينها تظل دائماً على هذا الاتصال .

وظني أنه عندما يعيد التاريخ نفسه -عند الفريق الذي يقول بذلك- فإن ذلك لا يأتي متطابقاً لأن حيوية التاريخ تحول دون ذلك لكنه في المقابل يأتي متصلاً لأن حتمية التاريخ تفرضه .

دائماً ما أُحذِّر من عدة مثالب تُنحر عند أبوابها الفكرة أو على أقل تقدير تُشوهها فتصير بلا معالم واضحة لا نفع فيها ولا رجاء منها .

تلك المثالب تتمثل في الابتسار وتجزئية الفكرة وتسطيحها وعدم ردها إلى الأصل الذي نبعت منه فتصير على هذا التشوه الذي ذكرناه .

عند الحديث عن هذا الصراع الذي أقصده وهو بالطبع الصراع العربي الإسرائيلي أذكر تلك الكلمات الذى جاءت في كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي أشرت إليه وهو الكتاب الذي يمثل المرجع الرئيسي لهذا المقال .

تقول الكلمات:

"هناك صراع بين طرفين على أرض غير قابلة للتقسيم:

أولهما لديه الحق -ويمكن أن تكون لديه القوة- والثاني لديه القوة ولا يمكن أن يكون لديه الحق . وإما أن تكون الأرض لصاحب الحق الباقي (الشعب الفلسطيني والأمة العربية) وإما أن تكون لصاحب القوة المؤقته ( اسرائيل و ... العالمية )"

"ولأن أرض فلسطين تقع على ملتقى ومفترق طرق الاتصال بين العالم العربي الذي يقول أهله جميعاً إنهم أمة واحدة وهو قول صحيح . وإذا قامت إسرائيل على هذه الأرض فإنها ستقطع العالم العربي وتقسمه إلى نصفين لا اتصال بينهما على الأرض"

فهم هذا الصراع يحتم علينا ووفاءً لما قدمناه في الحديث عن التاريخ أن نعود إلى التاريخ ذاته ليقدم لنا الفهم الصحيح لهذا الصراع .

متى بدأ والغاية منه .

(بزوغ فجر نجم جديد)

يعد يوم 13 مايو عام 1805 يوماً مشهوداً في تاريخ مصر الحديث إذ إنه اليوم الذي اختار الشعب المصري حاكمه متحدياً حاكماً فرضه عليهم السلطان العثماني .

في ذلك اليوم اختار الشعب المصري محمد علي ليكون حاكماً للبلاد وعزل خورشيد باشا المعين من قبل السلطان في الأستانة .

تقول الرواية التي أشار إليها "محمد فريد أبو حديد بك" في كتابه "زعيم مصر الأول السيد عمر مكرم" الآتي:

"فاجتمع الناس ألوفاً ، قيل أنهم بلغوا أربعين ألفاً ، في جوار بيت القاضي بقرب الأزهر يوم الإثنين 13 مايو من عام 1805 ، واجتمع زعماء الشعب داخل البيت حتى تكامل عددهم ، وتشاوروا فيما بينهم فرددوا ما تنطق به ألسنة الأفراد من ذكر محمد علي واستحسان توليته عليهم . فرأوا أن ذلك خير حل لما فيهم من الاضطراب ، إذ توسموا جميعاً في ذلك الرجل الذكاء والعدل والقدرة والشهامة ، وكان السيد عمر مكرم أول من ردد أقوال الناس واقترح على المجتمعين هذا الرأي"

منذ ذلك التاريخ أصبح محمد علي حاكماً لمصر عن طريق الإرادة الشعبية وإن كان الثابت أنه لم يبدأ ولايته الفعلية إلا في التاسع من يوليو عام 1805 حينما تم تصديق السلطان العثماني على تعيينه أو أُرغم على ذلك بفعل الضغط الشعبي كما سبق القول.

(مواجهة داخلية)

عقب ذلك كان أمام حاكم مصر أن يواجه قوتين داخلتين حتى يستتب الأمر له .

أولهما: كانت تتمثل في خورشيد باشا الذي عزله عن حكم مصر رغم إرادة السلطان العثماني .

وثانهما: الأمراء المصريين ( المماليك)

وقد تخلص محمد علي بالفعل من هاتين القوتين بتفصيلات تخرج عن نطاق هذا المقال لكنها تُظهر في النهاية شدة دهاء الرجل وإدراكه لحقائق السياسة .

(ظهور مبكر لحقائق الأمن القومي)

خلص حكم مصر إذن لمحمد علي واعترفت الأستانة به حاكماً إذعاناً للأمر الواقع .

ينتقل محمد علي من الوضع الداخلي الذي بات يتمتع باستقرار مقبول للغاية - اللهم من فترات الخلاف مع مرافقيه الذين كانواً سنداً له في طريقه إلى حكم مصر وإبعادهم عن المشهد السياسي ومن بينهم بالطبع السيد عمر مكرم .

نقول أن محمد على اتجه عقب ذلك إلى التوسع الخارجي في إدراك فريد لما تمليه حقائق الأمن القومي مع الوضع في الاعتبار حقائق الجغرافيا وإملاءات التاريخ .

امتدت سيطرة محمد علي إلى كل الأراض التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية بدأها بالشام عن طريق ابنه إبراهيم ثم توالت الفتوحات حتى أدركت أوروبا خطورة هذا التوسع وكان يجب أن تمتد أذرع الأخطبوط لتحكم الخناق على حاكم مصر الطموح .

(معاهدة لندن)

اضطرته أوروبا إلى التوقيع على معاهدة لندن سنة 1840 والتي قلصت هذه الفتوحات مقابل بعض المكاسب من بينها استقلال مصر عن الولاية العثمانية - على الأقل ظاهرياً -

لم تكتف أوروبا بما رتبته معاهدة لندن من خناق على حاكم مصر بل رأت بأن هذا الخطر الذي مثلته هذه الفتوحات لا ينبغي أن تكون مواجهته عن طريق هذه المعاهدة فحسب ، وأمرها في جميع الأحوال قابل للتعديل بل وللإلغاء طبيعة المعاهدات في التاريخ .

"كان الأمر يحتاج بجانب معاهدة لندن سنة 1840 إلى ما نسميه اليوم "إجراءات أمن إضافية"

(الشيطان يحضر . زرع قوة مختلفة)

تقدم البارون "روتشيلد" عميد البيت المالي اليهودي العتيد إلى اللورد "بالمرستون" رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت يعرض عليه فكرة تمكين اليهود من الهجرة إلى فلسطين وإقامة نطاق من المستوطنات فيها يكون بمثابة حائط يحجز أو على الأقل يعطل أية حركة من مصر إلى المشرق أو أية حركة من المشرق إلى مصر . والمراسلات التي دارت ببن بالمرستون وروتشيلد موجودة في الوثائق الرسمية البريطانية وهي ليست سراً لمن يريد الاطلاع عليها "

"إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليست كافية لأن هناك قوة جذب متباينة بين العرب وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهونة بإمكانات اتصالهم واتحادهم . إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف تجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا وكانت فلسطين دائماً هي بوابة من الشرق . والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر وفي هذه البوابة لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه . والهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم فقط ولكنها أيضاً خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها فليس مما يخدم الإمبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام اتصال بين مصر والعرب الآخرين"

(ميلاد غير شرعي .. وعد بلفور)

"وكانت الأفكار التي عبر الاثنان عنها في ذلك الوقت من القرن التاسع عشر هي نفسها الأفكار التي ترددت بعد ذلك في جلسات مجلس الوزراء البريطاني التي نوقش فيها وعد بلفور سنة 1917"

(دروس التاريخ)

ألم أقل أن التاريخ حلقات متصلة حتى ولو باعدت عنها حقب الزمان .

إن ربط هذه الحوادث التي تمثل ربما صفحة واحدة في حلقات هذا الصراع لا يحتاج جهداً كثيراً . بعدها سيكون في استطاعة كل من تتوافر لديه مقدرة متواضعة على التحليل أن يدرك أن الصراع أبعد مما يتصوره البعض وأعمق مما يتصوره البعض وأن الرؤية منذ ميلاد بصيص الضوء الأسود واضحة وأن الخيوط الرفيعة التي كانت تنسج في الظلام لم تكون خيوط عنكبوت يمكن أن نمزقها بأطراف أصابع يد واحدة بل كانت أذرع أخطبوط ليس لها غاية سوى أن تخنقنا كما صنعت مع حاكم هددت قواه من قبل .

إن التاريخ يظل يعطينا دروساً عديدة لكى نستوعبها وعندما نعجز عن ذلك أو نتراخى سيكون الدرس الأخير في منتهى القسوة ذلك لأنه لن يكون قابلاً حينذاك للاستيعاب .. !

تم نسخ الرابط