ads
الأحد 19 يناير 2025
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

القانون ليس مجرد نصوص جامدة أو لوائح معقدة، بل هو فن التكتيك ومرآة للتفكير الخلّاق خارج الصندوق. 

يعكس القانون قدرة الإنسان على استغلال التقنيات الحديثة والموارد المتاحة بذكاء وحكمة، ليصبح أداة فعّالة تضمن ليس فقط استقرار النظام القانوني، بل أيضاً تسيير عجلة الحياة العملية للدولة بصورة متناغمة. 

وأي إصلاح تشريعي يجب أن يعكس هذا النهج، وإلا فإنه يصبح جهداً مهدراً، يغرق في مسائل تقنية قد تكون بعيدة عن احتياجات الواقع الفعلي وغير قادرة على تحقيق التغيير المأمول. 

فالقانون ليس مجرد قواعد، بل هو فكر وفن يهدف إلى تطوير المجتمع واستجابته لتحديات العصر.

وهو ذاته، ما قام به المشرع الإنجليزي عام ٢٠١٥ في بعض المسائل المدنية والمتعلقة خصوصاً بحماية المستهلك. 

وقبل البدء، وجب التذكير بالطبيعة القانونية للقانون الإنجليزي، وذلك بهدف أن يكون القارئ، عند مطالعة هذا المقال، قادراً على تقييم و إدراك مدي التطور الذي حدث في الفكر القانوني والتشريعي الإنجليزي عام ٢٠١٥. 

فالقانون الإنجليزي يتمتع بطبيعة قانونية فريدة تُميزه عن الأنظمة القانونية الأخرى في العالم.

 فهو نظام قانوني قائم على السوابق القضائية (Common Law)، حيث تُعتبر أحكام المحاكم العليا مصادر أساسية للقانون. هذه الطبيعة تمنح القانون الإنجليزي مرونة كبيرة، إذ يُمكن للقضاة تفسير القواعد القانونية وتكييفها مع الحالات الواقعية التي يواجهونها، مما يساهم في تطوير القانون باستمرار. 

كما يعتمد النظام الإنجليزي على المبادئ العرفية والتقليدية، مع إعطاء أهمية كبرى للعقود والحريات الفردية.

 وبالرغم من ذلك، لا يُغفل القانون الإنجليزي التشريعات المكتوبة، التي تلعب دورًا تكميليًا وليس أساسياً لضمان التنظيم في مجالات محددة. 

هذا التوازن بين العرف والتشريع يجعل من القانون الإنجليزي نموذجًا متكاملاً يجمع بين الثبات والتطور، وهو ما يميزه عن النظم القانونية اللاتينية التي تعتمد بصفة أساسية علي التشريع والنصوص المكتوبة وليس السوابق القضائية. 

وفيما يخص مجال حماية المستهلك، فهو يعتبر من أهم القضايا التي تشغل الحكومات في مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في ظل التطورات الاقتصادية والتكنولوجية السريعة. 

وفي هذا السياق، يعد قانون حقوق المستهلك لعام ٢٠١٥ في إنجلترا بمثابة إصلاح تشريعي هائل، حيث قام بتوحيد وتنظيم قوانين حماية المستهلك التي كانت موزعة بين عدة تشريعات منفصلة، ليُظهر تحولًا جذريًا في النظام القانوني الإنجليزي التقليدي، الذي كان يعتمد بشكل كبير على السوابق القضائية وليس التشريعات المكتوبة.

نسعى من خلال هذا المقال إلى، تقديم تحليل شامل لهذا القانون، مع تسليط الضوء على الفرق بينه وبين القوانين السابقة، التوجهات العالمية لتجميع القوانين ذات الصلة في قانون واحد، وأهمية هذا التحول في القانون الإنجليزي الذي طالما كان يعتمد على تقاليد قانونية معينة.

د. يسرا شعبان تكتب: من الباب المفتوح إلى العقل المغلق

خلفية تاريخية للإصلاح التشريعي في القانون الإنجليزي

قبل عام 2015، كانت حماية المستهلك في إنجلترا تعتمد على مجموعة من التشريعات المتفرقة التي لم تكن مترابطة بشكل كافٍ. من أبرز هذه التشريعات كان:

1. قانون بيع السلع لعام 1979 (Sale of Goods Act 1979): والذي كان يحدد شروط بيع السلع وجودتها، ولكنه كان يقتصر على السلع الملموسة ويعطي حماية محدودة للمستهلكين في حال وجود عيوب في المنتجات.

2. قانون الشروط غير العادلة في العقود لعام 1999 (Unfair Terms in Consumer Contracts Regulations 1999): والذي كان يركز على الشروط غير العادلة في العقود بين الشركات والمستهلكين، ولكنه لم يتعامل مع قضايا تتعلق بالخدمات أو السلع بشكل شامل.

3. قانون حماية المستهلك لعام 2006 (Consumer Protection Act 2006): والذي قدم بعض التحسينات في مجال حماية المستهلك ضد الممارسات التجارية غير العادلة، ولكن لا يزال يفتقر إلى التغطية الشاملة والمترابطة.

هذه القوانين كانت تفتقر خصوصاً إلى التنسيق الكامل بينها، مما جعل فهم حقوق المستهلكين أمرًا صعبًا للمواطنين والشركات على حد سواء. فكان هناك حاجة ماسة إلى تجميع هذه القوانين في إطار قانون واحد يضمن حماية شاملة للمستهلك ويعزز من فعالية تطبيق القانون.

إصلاح عام ٢٠١٥ لقانون حقوق المستهلك

في عام ٢٠١٥، قانون حقوق المستهلك دخل حيز التنفيذ ليشكل نقلة نوعية في كيفية تنظيم حقوق المستهلكين في إنجلترا. يعد هذا القانون أحد أكبر الإصلاحات التشريعية التي شهدتها البلاد، حيث عمل على توحيد القوانين السابقة وتنظيمها ضمن كود واحد يسهل فهمه وتطبيقه، ويعزز حماية المستهلك في مختلف المجالات.

أهم ملامح القانون الجديد:

1. ضمان جودة السلع والخدمات: يفرض القانون أن تكون السلع مطابقة للوصف، وذات جودة مرضية، وملائمة للاستخدام المقصود. إذا كانت السلعة معيبة، يحق للمستهلك طلب إصلاحها، أو استبدالها، أو استرداد أمواله.

2. تغطية السلع الرقمية: للمرة الأولى، يتم إدراج المنتجات الرقمية مثل البرمجيات والتطبيقات ضمن حماية المستهلك. يجب أن تكون المنتجات الرقمية خالية من العيوب ومتوافقة مع ما تم الإعلان عنه.

3. فترة استرداد الأموال: يحق للمستهلك استرداد الأموال بالكامل خلال 30 يومًا إذا كانت السلعة معيبة.

4. حماية ضد الشروط غير العادلة: يفرض القانون أن تكون الشروط في العقود واضحة وغير غامضة، ويحظر أي شروط غير عادلة قد تضر بالمستهلك.

5. حماية ضد الممارسات التجارية غير العادلة:يحظر القانون الإعلانات المضللة وأساليب البيع العدوانية، ويعزز من الشفافية في التعاملات التجارية.

تقييم الإصلاح التشريعي لعام ٢٠١٥: التحول في النهج التشريعي الإنجليزي من السوابق القضائية إلى القانون المكتوب

من المعروف أن النظام القانوني الإنجليزي يعتمد تقليديًا على السوابق القضائية، حيث يُستند إلى قرارات المحاكم السابقة لتحديد الحكم في القضايا الجديدة. وبذلك، كان يعتمد بشكل أساسي على اجتهاد القضاة في تفسير القوانين، مما يعني أن هناك نموًا تدريجيًا في التشريعات وليس توحيدًا مباشرًا.

مع دخول قانون حقوق المستهلك لعام ٢٠١٥ حيز التنفيذ، شهد النظام الإنجليزي تحولًا كبيرًا نحو التشريعات المكتوبة، حيث تم تجميع جميع القوانين المتعلقة بحماية المستهلك في قانون واحد موحد. هذا يعد تحولًا كبيرًا في النظام الذي كان يعتمد على السوابق القضائية، ويعكس رغبة في توفير حماية أكثر وضوحًا وشمولًا للمستهلكين.

ولكن تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن، قانون حقوق المستهلك لعام ٢٠١٥ ليس فقط تحوّلاً في النظام الإنجليزي، بل يعكس اتجاهًا عالميًا نحو تبني تشريعات موحدة لضمان حماية شاملة للمستهلكين. هذا الاتجاه شهدته العديد من الدول التي أدركت ضرورة تبسيط القوانين لحماية المستهلك في عصر سريع التغير.

وعلى سبيل المثال، هناك العديد من الدول، بل والاتحاد الأوروبي، الذين اتجهوا إلى توحيد قوانين حماية المستهلك في نظامهم التشريعي، مثل:

الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم تجميع عدة تشريعات تتعلق بحماية المستهلك مثل قانون التجارة (FTC Act) وقانون حماية المستهلك في المبيعات الإلكترونية، ضمن إطار تشريعي واحد، لتسهيل تطبيق القانون وحماية المستهلكين في مختلف الولايات.

وكذلك، الاتحاد الأوروبي، حين أصدر الاتحاد الأوروبي توجيه حقوق المستهلكين لعام ٢٠١١، الذي عمل على توحيد التشريعات في الدول الأعضاء ورفع المعايير القانونية لحماية المستهلكين في جميع أنحاء الاتحاد. وأخيراً، أصدرت أستراليا قانون حماية المستهلك الأسترالي لعام ٢٠١٠، الذي جمع جميع قوانين حماية المستهلك في كود واحد لضمان وضوح الحقوق وحمايتها بشكل أفضل.

إن قانون حقوق المستهلك لعام ٢٠١٥ يمثل خطوة كبيرة في تطوير النظام القانوني الإنجليزي، ويعكس تحولًا نحو التشريعات المكتوبة التي تجمّع كافة قوانين حماية المستهلك في إطار واحد واضح وشامل. هذا الإصلاح لا يقتصر على تحسين حقوق المستهلكين في إنجلترا فحسب، بل يمثل أيضًا جزءًا من اتجاه عالمي نحو توحيد القوانين المتعلقة بحماية المستهلك. إن هذا التحول التشريعي يسهم في تحقيق العدالة الاقتصادية، ويعزز من شفافية السوق، مما يعود بالفائدة على المستهلكين والشركات على حد سواء.

________________________________________________________

مدرس القانون بحقوق عين شمس

عضو اللجنة العليا للإصلاح التشريعي

تم نسخ الرابط