الأحد 29 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 لا شيء في الدنيا يعْدِل ثقل، ومرارة، وبشاعة الإخراج من الوطن، حتى لو كان باديةً أو برِّيَّةً.
 فلما قالوا: ماذا تصنع في البادية إذا اشتدَّ الحر، وانْتَعَلَ كلُّ شيء ظلَّه ؟ قال: وهل العيش إلا ذاك! يمشي الواحد منا ميْلا، فيعرق، فينصب عصاه ويطرح عليها كساءه، يجلس في ظلِّه يكتال الهواء كيلا، فكأنه إيوان كسرى. 
 قالوا متعجبين: في الصحراء ؟!! قال: بل في وطني .
  إنه رد رجل يعيش في البادية حيث لا أنهار، ولا بحار، ولا ثمار، لكنه يراها إيوانَ كسرى أنوشروان في الأُبَّهة والفخامة.
وفي رحلة الهجرة، وعند منطقة الجحْفة التي هي ميقات أهل مصر والشام تَنزَّى الحنين في صدر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهاجَه الشوق لوطنه مكة المكرمة ، مولدِه ، ومولدِ آبائه وأجداده الذي ما كان ليهاجر منه لولا أن قومه أخرجوه منه. 
فما كان من الحق إلا أوحى إليه، تسْكِينًا لشوقه، وتطْمينا لقلبه قائلا : " إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖۚ "القصص/85
وفيه إعلام مؤكد للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن الله رادُّهُ إلى وطنه؛ فالمعاد الوطن، ومعاد الرجل: بلده ووطنه.
فحب الوطن متجذر في القلوب يولد بمولد الانسان، وينمو بنموه.
بل هو من خصال الطير والحيوان، فالإبل تحِنُّ إلى أوطانها وإن كان عهدها به بعيدا، والطير إلى أوكارها وإن كان موضعها مُجدبا ، كما أن الإنسان يحِنُّ إلى وطنه وإن كان غيره أكثر له نفعا .
لذا كانت بشاعةُ، وقسوةُ ومرارةُ، وألم الإخراج منه، تعْدِل التَّقْتِيل ، وهو: المبالغة في القتل، وتعدل التَّصْلِيب، وهو: نصْبُ الرجلِ مشدوداً على خشبة، ثُمّ قتلُه عليها.  
لأن الرجل إذا أُخْرِج من وطنه ذُلّ وخُضَّدَتْ شوكتُه، ولم يعد ما كان له في وطنه، وبين قومه من: إقدام، وجُرْأة، وعزَّة، ومنعة .
 لذا يساوي القرآن في الخزْي والذُّلِّ والمهانة بين: التَّقْتيل، والتصليب، والنفي من الوطن كعقوبات في حد الحرابة فيقول:" إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ"المائدة /33
 وفي موضع آخر يساوي في المرارة والثقل على النفس بين الحكم على الرجل أن يقتل نفسه بنفسه، والحكم عليه بالطرد والتهجير من وطنه، فيقول:"وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ"النساء/66
أي: ما كتبنا عليكم ـ كمالا لإيمانكم ـ إلا الطاعة والانقياد والرضا والتسليمَ لما يقضي به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم نكلفكم أن تقتلوا أنفسكم، أو أن تخرجوا من دياركم وأوطانكم؛ لعلمنا ثقل ذلك على أنفسكم إلى حد أنه لو كتب عليكم لما فعله إلا قليل منكم .
 ففيه إشارة واضحة إلى أن الأمر بالإخراج من الأوطان ـ حتى لو كان صادرا من الله ـ فهو ثقيل على النفس، ولثِقَله لن يفعلَه جلُّ الناس وسيعصون الله فيه.
 فما بال المتألهين في الأرض يتوقعون من الناس أن يطيعوهم فيما لو كتبه الله عليهم لما أطاعوه فيه ؟!.
ما بال المتألهين في الأرض يطلبون من أهل غزة أن يهجروا وطنهم؟ وكأنهم لا يدركون أن ما يرتكبونه من فظائع وجرائم هو دون التهجير في المرارة والقسوة بكثير.
إن غزة بالنسبة لأهلها أجمل بقاع الأرض، فلا تنتظروا منهم أن يقولوا لكم سمعا وطاعة، لأن الله عز وجل في علاه لو أمرهم أن يخرجوا من ديارهم وأرضهم فلن يخرجوا.
  " وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ. وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ"إبراهيم/14
أي: لنسكننكم من بعد إهلاكهم ذات الأرض، ونفس الأرض التي هُدَّدُوكم بالطرد والتهجير منها. 
حفظ الله مصرنا من كل مكروه وسوء، وأدام لها جيشها درعا وسيفا ، ووفق قادتها لما في خيرها وعزها ونماؤها.

تم نسخ الرابط