اقتضت ظروف ما أن أسلك طريقاً بصفة شبه دورية من شمال القاهرة إلى جنوبها، الأمر الذي استدعى بداخلي روح التأمل ورؤية الأماكن وكأنها تخاطبني دون أن أوليها أي استعناء مما سمح لي برؤية القاهرة نهاراً وليلاً بعينٍ مختلفة.
وإليكم ما أبلغتني به شوارع قاهرة المعز.
أمر بداءة بحواري زهراء المعادي لأرى المصري العادي، المواطن الذي يستقل توكتوك ليصل إلى وجهته، ثم أخرج قليلاً لأرى كورنيش المعادي، وأشتم رائحة النيل الرطبة، في جو يكاد أن يكون حاراً، لأرى نسمات النيل تلطف الجو بدرجة محتملة. وأرى معها أشعة الشمس وكأنها لآلئ تزيد من جمال الماء الجاري. فهذا المنظر، استحضر بداخلي قوة وإرادة الإنسان المصري، المرتبط أصالة بنيل بلده. وراودتني كم الأفكار الخاصة بقضية النيل الحالية لأجد خاطري يعبأ شجناً وأقول، ستكون حربَ مياه.
ثم قادتني السيارة إلى طريق مدينة الفسطاط القديمة، وهي مدينة عمرو بن العاص، لم أكن أنتوي أن أسلك هذا الطريق، لكن الزحام غلبني وقولت بداخلي "كل الطرق ستؤدي إلى روما". وفي طريقنا نرى متحف الحضارة، وسعدت بالأشغال التي تحدث الآن من تطوير لهذا الطريق، فبالتأكيد ستزيد من السلاسة المرورية في قاهرة المعز المعروفة بالازدحام لما تسهله الكباري الجديدة من وقتٍ وجهد.
مررت فيما بعد بسور مجرى العيون، ثم القلعة، ثم السيدة عائشة -مكان مقام المسجد- ثم طريق صلاح سالم، أحد الطريق المشهورة جداً في قلب العاصمة المصرية، لكي أمر بمشيخة الأزهر، ومسجد الرحمن الرحيم وميدان العباسية، ثم منصة النصب التذكاري وطريق استاد القاهرة.
وحينها، غلبني التفكير، خصوصاً مع أنغام الأغاني القديمة التي كانت صدفة مذاعة بالراديو، بالأخص للمغني محمد فوزي، وكذا الفنانة صباح. داهمتني الأفكار ما بين فخر وتساؤل.
وكان مصدر فخري، كل ما مررت به من معالم القاهرة، وكان مصدر تساؤلي، هل يدرك حقاً قاطني هذه البلد قيمة ما يرونه ومرون به من معالم يومياً؟
أرى من الدول من تصنع حضارة قد تكون بالنسبة للمصري القديم "حضارة شديدة الحداثة"، وأرى كذلك من الدول من تصنع الحضارة بالمال. ليراودني في هذا المقام سؤال واحد فقط، ألا وهو "ما هي قيمة الإنسان؟" "هل بقيمة حضارته"؟ وكان ذهني في لحظتها حاضراً لكي يرد منطقياً وتلقائياً ويقول "قيمة الإنسان بالمعاني التي يؤمن بها وينشرها، ويعمل على إثباتها لنفسه ولمن حوله يوماً بعد يوم".
فالإنسان ليس بثيابه ولا بشكله الخارجي، ليس كذلك بشهاداته، لكنه بمعدنه وبأفعاله التي تتأتى من إيمانه بقيم ما استقاها من أسرته، مجتمعه، تعليمه، والأهم ثقافته، والبيئة المحيطة به.
لأتذكر كم من الآيات القرآنية والعبارات التي ترددت على مسامعي وكأنها "أجراس إنذار"
أولاً؛ قول الله سبحانه وتعالى حين قال " ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" في الآية ٣٢ من سورة الحج. مما يضع لنا النتيجة الحاصلة أن الإنسان مأمور بنشر الفضائل.
وثانياً؛ قول الرسول صلى الله عليه وسلم، " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، الأمر الذي ينبهنا لاستمرار العمل والبناء، لأنه كما قال رسول لله صلى الله عليه وسلم، " اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم".
وثالثاً؛ أفعال الإنسان تنم عن تربيته وبيئته، ثقافته، فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أظل أهاب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي».. وقديماً قال الفيلسوف اليوناني سقراط "تكلم حتى أراك".
مما يؤكد فكرة أن الناس معادن وأن الإنسان ليس بشكله ولكن بالتأكيد بجوهره وبما يحمله من قيم
فأخيراً وليس آخراً، الفخر بتراث الأجداد أمر طبيعي، لكن يجب ألا يتوقف عنده التفكير. لأن، الإنسان قيمته بما تصنعه يداه أولاً، وباستمرار رفعة الأجداد ثانياً، وبإحياء الفضائل والقيم المؤمن بها ثالثاً. وبالأحرى، يجد أن تظهر أفعالنا، وتكون على قدر" أصالة ثمانية آلاف سنة "حضارة". لأدعو الشباب التسلح بالقراءة، الاطلاع، الحراك، الثقافة، ليزنوا أنفسهم على الميزان الدولي، بالقيمة المعاصرة.