الأحد 29 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

د. أحمد إبراهيم يكتب: الحب الرمزي

د احمد إبراهيم
د احمد إبراهيم

 أول الحب يكون انفعالا ينشأ بسبب إدراك المحاسن، يعقبه ميل وانجذاب إلى المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعل محبا، والمشعور بحسنه محبوبا، وتكون المحاسن التي أوجبت هذا الانفعال جمالا في نظر المحب، فإذا قوي هذا الانفعال وكانت المحاسن لإنسان أو ذات سُمِّيَ عشقا، وإذا كانت المحاسن لغير الذوات كالمال أو غيرها سمي افتتانا .
وإدراك المحاسن آلته الحواس، وكلُّ نفس تستحسن ما يلائمها من الأشكال والأنغام والروائح والمحسوسات . 
ولم يستطع الفلاسفة أن يوضحوا سبب ملائمة بعض المحاسن المعبر عنها بالجمال لنفسٍ دون أخرى، ولا سر اختلاف الناس في بعض ما يُعبر عنه بالجمال والقبح، فترى البعض يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر، ويستحسن ألوانا يستقبحها آخرون.
والطبائعيون لا يعرفون سوى هذا النوع من الحب الحسي أو المادي؛ لأن الجمال عندهم هو ما تستحسنه الحواس فقط، وما تستحسنه الحواس متغير، وكذلك ما أوجبته تلك المحاسن من ميل يكون متغيرا. 
 وقد يُسْتمد الشعورُ بالحسن والجمال من التفكر في الفضائل والكمالات، وإدراك هذا النوع من الجمال المستوجب للحب آلته: العقل وليس الحواس، فالإنسان يحب أهل الفضل، وسُعاةَ الخير من الأولين والآخرين دون أن يراهم أو يلتقي بهم .
وهذا النوع من الحب يسمى: "الحب الرمزي" ويقوم على اعتبار أن الجمال أزليٌّ موجود في عالم العقل، وغير قابل للتغير، تمتعت به الأرواح قبل حلولها في الأجساد، لذا فهي تستحسن كل ما كان على مِثَالِ ماعهدته في عالمها الأول ؛ لأنه مألوفها قبل هبوطها .
وهذا يعني أن المحبوب لا يشترط أن يكون محسوسا؛ لأن من الجمال جمالٌ لا يدرك بالحواس، بل يدرك بالعقل، فالإنسان قد يسمع بصفات المشاهير الذين اتصفوا بالمحامد من العلم، والكرم، والعدل، فيميل إلى ذكرهم، وقراءة سيرتهم ، ثم يقوى ذلك الميل حتي يصيرَ محبة.
وكمن يزاول القراءة في صفات الخالق ـ تعالى ـ وكلها كمالات، وإحسان إلينا، ورحمة بنا، وإصلاح لمفاسدنا، فإنه واجد في نفسه من إجلال الله وتعظيمه ما يقوى إلى أن يصر محبة لله تعالى.
ولا غرابة في ذلك فالبصيرة أقوى من البصر، والقلب أشد إدراكا من العين، وجمال المعاني المُدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار.
وبالتالي فلذَّةُ ومتعتُه القلبِ بما يدركه من الأمور الشريفة التي تَجِلُّ أن تدركها الحواس أتم وأبلغ، فيكون ميل الطبع السليم، والعقل الصحيح إليه أقوى.
لذا كانت حقيقة محبة الله وأصلها عند العارفين: احتراق القلب بنيران الشوق، و رَوْحِ الرُّوحِ بلذة العشق، وتخلق المحب بصفات المحبوب قدر طاقته. 
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال، وحسنِ القِدم، لا بنعت الآلاء والنعم؛ لأن المحبة متى كانت من تولُّدِ رؤية النعماء كانت معلولة، وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، وهذا لا يصح إلا ممن نسي الكل، واستغرق في مشاهدة المحبوب، وفنِيَ فيه . 
والقرآن الكريم ناطق بهذا النوع من الحب في قوله تعالى:" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ" سورة المائدة/54 
إنه حبُّ من أدركوا أن الكمال محبوب لذاته، فلما عرفوا أن الكمال المطلق لله وحده أحبوه في ذاته ولذاته، ونحن إذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه، والشجاع لشجاعته، والزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال.
فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه، وجميع القُدَرِ بالنسبة إلى قدرته، وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم .
 وهذ مقامٌ سبيله الوقوف على دقائق حكمة الله الشاهدة بكماله، وكلما كان العلم بها أكمل كان حبه أتم، ولما كان وقوف العبد على دقائق حكمة الله ودلائل قدرته لا نهاية له، كانت مراتب محبة جلال حضرته بلا نهاية .
لكن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمته ـ سبحانه ـ كثر ترقِّيهِ في مقامات محبة الله حتى تستولي على قلبه، وتغوصَ فيه غوص قطرات الماء النازلة على الصخرة الصماء، فإنها مع لطافتها تغوص في الحجارة الصلدة .
وكذلك محبة الله إذا غاصت في القلب، وتكيف بكيفيتها، واشتد إلْفُه بها، نفر وأعرض عما سوى الله إعراضا يوجب الفناء عما سواه ـ سبحانه ـ فيصير ذلك القلب مستنيراً بأنوار القدس، مستضيئاً بأضواء عالم العصمة، فانياً عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث،.
وهذا المقام أعلى الدرجات، وليس له في هذا العالم مثالٌ إلا العشق الشديد على أي شيء كان، فإنك ترى من الطلاب من ينسي جوعه، وطعامه، وشرابه عند استغراقه في المطالعة شغفا بالعلم، فإذا عُقِل ذلك في هذا المقام، أفلا يُعقل في حب العبد لخالقه ومولاه ؟ 
أتدرون ؟ لقد جعل القرآن الكريم دليل هذا الحب، وبلوغ ذلك المقام : اتباعَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ، كما جعلَ تبعيته ـ صلى الله عليه وسلم سبيلا لحب الله ومغفرته يقول الحق على لسان الحبيب صلى الله عليه وسلم :" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " سورة آل عمران /31  
 سَأَلَ رجلٌ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ الرجل: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ ، وَلَا صَوْمٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" صحيح البخاري/ 6171  
اللهم ارزقنا حبك، وحب نبيك، وحب من يحبك ويحب نبيك صلى الله عليه وسلم ، واحفظ اللهم بلادنا من كل مكروه وسوء، ووفق يا رب قادتها وولاة أمورها لما فيه الخير والنماء.

تم نسخ الرابط